تكثف روسيا تنافسها مع الولايات المتحدة في أفريقيا عبر دعم الانقلابات العسكرية بهدف الاستيلاء على الموارد الأفريقية من الذهب والمعادن الرئيسية، كجزء من السباق على تقاسم النفوذ الاقتصادي والتقني والعسكري الجاري مع واشنطن وحلفائها. وتستخدم روسيا مجموعة "فاغنر" في تنفيذ هذه الاستراتيجية، حيث تُتهم هذه المجموعة بالتورط حالياً في دعم "قوات الدعم السريع" وقائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) في الحرب الدائرة في السودان، عبر إنشاء مليشيات تكون مرتبطة بموسكو وتنفذ تعليماتها، وتستخدم في ذلك شركات أمنية خاصة، ولكنها في الواقع مرتبطة بالدولة الروسية وعلى رأسها شركة الأمن الخاصة "فاغنر" وشركات أخرى مثل "مزرعة ترول" ومقرها سانت بطرسبرغ، والتي تحمل اسم "وكالة أبحاث الإنترنت" وتتولى الحرب الإعلامية، وتعمل على الترويج حالياً لقوات حميدتي.
دور "فاغنر" في الحرب بالسودان
حول الدور الذي تلعبه "فاغنر" حالياً في الحرب بالسودان، قالت مصادر دبلوماسية سودانية وإقليمية لشبكة "سي أن أن" الأميركية، إن مجموعة المرتزقة الروسية "فاغنر" تزود قوات الدعم السريع السودانية بالصواريخ للمساعدة في قتالها ضد جيش البلاد. وأضافت المصادر أن صواريخ أرض-جو دعمت بشكل كبير مقاتلي الدعم السريع وقائدهم محمد حمدان دقلو بينما يقاتل على استلام السلطة بالبلاد.
من جانبها، تقدر "المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية" GI-TOC، وهي مجموعة دولية تابعة للأمم المتحدة، أن مجموعة "فاغنر" متجذرة بعمق في السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى المجاورة للسودان، مما يؤدي إلى تطوير نفوذ سياسي كبير ومصالح تجارية واسعة لروسيا في القارة السمراء.
وترى المصادر أن المجموعة تدعم "قوات الدعم السريع" على أمل استلام حميدتي السلطة في السودان، ومواصلة نهبها للذهب والثروات السودانية. كما تأمل موسكو كذلك بناء قاعدة بحرية في بورتسودان لبسط نفوذها على البحر الأحمر، وربط القاعدة بقاعدتها في طرطوس بسورية، وبالتالي الهيمنة على الحركة البحرية من البحر الأبيض المتوسط وحتى المحيط الهندي.
وحسب المصادر، فإن هذه السيطرة ستكون مهمة لموسكو لتنفيذ استراتيجية الهيمنة على الممرات البحرية الرئيسية في العالم. فالبحر الأحمر هو الشريان الرئيسي لتصدير النفط، حيث تمر عبره قرابة 4.5 ملايين برميل يومياً. وبالتالي، ربما ستتمكن روسيا مستقبلاً لو نجحت في مشاريعها من التحكم بإمدادات النفط العالمية وزيادة نفوذها على سياسة الطاقة في دول الخليج التي يربطها بها تحالف "أوبك +".
كما تسعى موسكو كذلك للاستحواذ على موارد الذهب السودانية في منطقة جبل عامر، ومكامن تعدين اليورانيوم في "مثلث اليورانيوم" الذي يمتد بين ولاية دارفور غربي السودان وليبيا وجمهورية تشاد.
وفي الوقت الذي تنشغل فيه مجموعة "فاغنر" حالياً بالحرب الأوكرانية؛ فإن موسكو كانت تأمل أن تلعب "قوات الدعم السريع" دوراً محورياً في حماية مصالحها في أفريقيا.
ضرب النفوذَين الأوروبي والأميركي
على صعيد التنافس بين موسكو وواشنطن على الموارد الأفريقية، تقول دراسة بمعهد بروكنغز الأميركي، إن روسيا تستهدف عبر الدور الذي تلعبه مجموعة "فاغنر" في السودان وأفريقيا ضرب النفوذَين الأوروبي والأميركي في القارة الأفريقية. ومعروف أن "فاغنر" تعرقل نجاح الثورات والتحول الديمقراطي وبسط سيادة القانون في أفريقيا والمحيط العربي، كما هي الحال في السودان وليبيا.
وفي استراتيجيته الأفريقية، وحسب معهد بروكنغز، تسعى موسكو إلى محاصرة النفوذَين الأميركي والأوروبي في أفريقيا وتضع ذلك على جدول "أولويات السياسة الخارجية لروسيا". ولتحقيق هذا الهدف، تسعى موسكو إلى إنشاء أنظمة عسكرية تديرها مليشيات أو سلطات عسكرية أفريقية تعتمد على حماية مجموعة "فاغنر" أمنياً للنظم العسكرية، مقابل الحصول على عقود مناجم الذهب واليورانيوم والمعادن الرئيسية الأخرى التي تخدم مصالح روسيا في السباق على النفوذ العالمي.
وعادة ما تستهدف "فاغنر" البلدان التي لديها حكومات هشة، ولكنها غالبًا ما تكون غنية بالمواد الخام المهمة، مثل النفط والذهب والماس واليورانيوم والمنغنيز. وتزعم شركات الأمن الخاصة الروسية، وعلى رأسها مجموعة "فاغنر" أنها تقوم بمعالجة النزاعات العسكرية والإرهابية المحلية المعقدة، التي تكافح الحكومات الأفريقية للتخلص منها. كما أنها توفر لهذه الحكومات القدرة على القيام بعمليات قمع للثورات الشعبية تحت مسمى "مكافحة التمرد" بدون أي مراعاة لحقوق الإنسان، مما يسمح للحكومات الأفريقية بأن تبقى في السلطة على حساب المصالح الوطنية ودفع أي ثمن مقابل الحكم. وكما هي حال "فاغنر" المرضيّ عنها في موسكو؛ تسعى الشركات الروسية الأمنية الخاصة للحصول على امتيازات للموارد الطبيعية أو توقيع عقود تجارية كبيرة، أو حتى الوصول إلى مواقع استراتيجية، مثل القواعد الجوية أو الموانئ.
إعادة بناء الدور الروسي
منذ العام 2006 سعت موسكو إلى إعادة بناء وجود روسيا ودورها في أفريقيا، الذي ضعف بشكل كبير بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1991. وبين عامي 2015 و2019 وقّعت موسكو 19 اتفاقية تعاون عسكري مع الحكومات الأفريقية، وركز هذا التعاون في جزء كبير منه على مبيعات الأسلحة الروسية. كما تركز موسكو في توسع نفوذها بأفريقيا على استخدام شركات الأمن الخاصة لتقديم التدريب والمشورة للأنظمة العسكرية التي تواجه ثورات شعبية أو تظلمات جهوية أو قبلية مثلما حصل في إقليم دارفور بالسودان.
ورغم تنصل موسكو من أي قيادة أو سيطرة على شركات "الأمن الخاصة"، وحظرها الارتزاق بموجب المادة 359 من قانونها الجنائي، فإن ذلك يمكن اعتباره محاولة منها لتبرئ نفسها من الجرائم البشعة التي ترتكبها هذه المليشيات، مثل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وإساءة معاملة المدنيين في دارفور. كما أن هذه "الشركات" توفر أداة بديلة للمواجهات العسكرية مع الولايات المتحدة، تجنّب القوات الروسية التورّط بشكل مباشر مع الولايات المتحدة، مثلما حدث في عام 2018، حينما اشتبك حوالي 300 جندي من مجموعة "فاغنر" مع قوات العمليات الخاصة الأميركية في دير الزور في سورية، كما تستخدم موسكو "فاغنر" كذلك كمصدر استخبارات رئيسي.
جذور "فاغنر"
تعود جذور استخدام روسيا للمرتزقة لتحقيق أغراضها الاستراتيجية إلى تسعينيات القرن الماضي، عندما بدأت شركات الأمن الخاصة الروسية، مثل مجموعة "موران للأمن" و"الفيلق السلافي"، في تقديم خدمات الأمن لرجال الأعمال الروس في أفريقيا. ومع ذلك، كانت نقطة التحول الرئيسية لاستخدام موسكو المنهجي للجهات الأمنية الخاصة المرتبطة بالكرملين عام 2014، عندما فرض الغرب عقوبات على روسيا لضمها شبه جزيرة القرم وزعزعة استقرار إقليم دونباس. ولعبت مجموعة "فاغنر"، التي أسسها ضابط سابق بقوات العمليات الخاصة في مديرية المخابرات الرئيسية التابعة لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة للاتحاد الروسي (GRU)، دورًا بارزًا في عمليات أوكرانيا، حيث زود الكرملين بمعلومات استخبارية مهمة عن الجيش الأوكراني.
وبدأ تمويل المجموعة من قبل الأوليغارشي المرتبط بالكرملين يفغيني بريغويجن، قبل أن تصبح مليشيا غنية من ذهب السودان وعقود حماية النخب الحاكمة والناشئة في الشرق الأوسط وأفريقيا، بما في ذلك سورية واليمن وليبيا والسودان وموزمبيق ومدغشقر وجمهورية أفريقيا الوسطى ومالي.