تدفع حالة التذبذب في أسعار الدولار مقابل الجنيه المصري، كبار الموردين والتجار إلى تهدئة المبيعات، وتفضيل الاحتفاظ بالسلع، خوفاً من عودة مفاجئة لصعود الدولار، الذي شهد تراجعاً هائلاً، عن مستوياته السائدة خلال الشهرين الماضيين، حيث تراجع من مستوى يزيد عن 70 جنيهاً للدولار إلى أقل من 40 جنيهاً.
ويؤكد مراقبون أن الحكومة تقبض أمنياً على إدارة سوق الدولار في السوق الموازية، بعد ملاحقتها كبار المتعاملين في سوق الدولار والذهب، على مدار الأسبوعين الماضيين، لسعيها إلى تعويم رابع للجنيه، يبدأ تنفيذه الأسبوع المقبل، مع بدء تطبيق ساعات العمل بالبنوك خلال شهر رمضان.
أكد خبراء اقتصاد، لـ"العربي الجديد" أن قرار التعويم الرابع سيصدر خلال أيام، مستبقاً الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، للحصول على قرض يتراوح ما بين 10ـ12 مليار دولار.
يستند الاقتصاديون إلى سيطرة الحكومة على تطبيقات تداول أسعار الدولار على شبكات التواصل الاجتماعي، وتنظيم حملات أمنية إعلامية موسعة، عبر شخصيات في قنوات مملوكة لأجهزة المخابرات، تحدد سعر بيع الدولار على الهواء، لتنفذ على التطبيقات، لفرضها على السوق الموازية، على مدار اليوم.
يشير اقتصاديون إلى أن الهبوط في سعر الدولار لم يصل إلى المستوى المستهدف من الحكومة، لعدم جاهزية البنوك لتحرير سعر الصرف، رغم تشرذم تجارة الدولار بالسوق السوداء، بما يدفع العملة الأميركية إلى الصعود من جديد تدريجياً، واستمرار تداوله بعيداً عن القبضة الأمنية، في ظل اختفاء بدائل أمام حائزيه لبيعه بسعر عادل، وعدم قدرة الراغبين في شرائه، على الحصول عليه من القنوات الرسمية.
وأثرت حالة عدم الاستقرار في استمرار غلاء مختلف السلع الغذائية، من بينها السلع التي حددت الحكومة سقفاً لأسعارها، ومن بينها السكر والزيوت والأجبان. ويواصل السكر اختفاءه في الأسواق، مع ظهوره مغلفاً في عبوات وزن 20 غراماً ليباع الكيلو بسعر 100 جنيه بدلاً من المحدد رسمياً عند 27، وبحد أقصى 40 جنيهاً.
وتعادلت أسعار الزيوت المقررة حكومياً مع القطاع الخاص، بينما تقل أسعار الأجبان والألبان في العروض الخاصة عما قررته وزارة التموين.
تنتظر الأسواق قرار التعويم، مع توقعات متفائلة تقودها الحكومة حول انتهاء الأزمة الاقتصادية التي تمر بها جراء بيع الأراضي والمشروعات العامة لمستثمرين أجانب ومصريين.
بعد توقيع صفقة رأس الحكمة، مع صندوق الإمارات السيادي، بقيمة 35 مليار دولار، وحصولها على دفعة أولى بلغت 10 مليارات دولار، بالإضافة إلى 520 مليون دولار من صفقة بيع الفنادق التاريخية، لمجموعة "طلعت مصطفى"، تقود الحكومة حملة تفاؤل مفرطة، حول تحسّن الموقف المالي الخارجي، وتوافر السيولة بالعملة الصعبة، والتقليل من مخاطر التوجّه إلى تعويم جديد لسعر الصرف.
وعزز صندوق النقد الدولي من قيمة الصفقة، مع وعود بسرعة البت في زيادة القرض المخصص لمصر، من 3 مليارات إلى قرض آخر من رقمين، يجري على وجه السرعة خلال شهر رمضان المقبل.
ويؤكد خبير التمويل والاستثمار، وائل النحاس، لـ"العربي الجديد" أن الصفقات التي وقعتها الحكومة لبيع رأس الحكمة وبعض الشركات العامة، لم تسفر عن شيء على أرض الواقع حتى الآن، سوى تأثيرها على التوقعات بالأسواق، مشيراً إلى عدم استفادة الحكومة من مرحلة هبوط الدولار والذهب، والإعلان عن خطط واضحة تدفع إلى تنازل الناس عما لديهم من دولار أو ذهب طواعية.
قال خبير التمويل والاستثمار، إن الموطن تحوّل إلى فريسة بين تصرفات الحكومة والمتحكمين في السوق السوداء، لأن من لديهم الدولار ويريدون التنازل عنه لا يجدون قنوات رسمية تحصل عليه بسعر عادل، فيبيعونه للتجار عند مستوى أقل من 40 جنيهاً، وعندما يحتاجون للعملة الصعبة، فلا توفرها البنوك، ويضطرون للشراء من التجار بسعر يفوق 52 جنيهاً.
يؤكد النحاس عدم تأثر أسعار السلع بالأسواق بتراجع الدولار، لوجود مخاوف لدى الموزعين بزيادة البيع، أو خفض أسعار السلع، لعدم وضوح رؤية السوق خلال الفترة المقبلة، مع تحرك المبيعات في أضيق نطاق بما يوفر السيولة التي تمكنهم من الصمود لحين اتضاح سياسة سعر الصرف المتوقع تطبيقها خلال الفترة المقبلة.
وينوّه النحاس بأن المبالغ التي أدخلتها الحكومة في حسابات البنك المركزي بالدولار، لم نرَ لها أي أثر في حصول المستثمرين على حقوقهم المتراكمة على الحكومة والشركات العامة، ولم يستطع المواطن الحصول على الدولار من البنوك، مذكراً بأن الحكومة أعدت تلك الصفقات لتوظيفها في مرحلة الإعداد لما قبل الاتفاق الجديد، مع صندوق النقد، والتوجه إلى مرحلة التعويم بأقل خسائر ممكنة.
وأوضح الخبير الاقتصادي أن الحكومة تستهدف أن يكون التعويم الجديد للجنيه عند حدود 34 جنيهاً للدولار، وتفرض ذلك من خلال القبضة الأمنية والحملات الإعلامية والسيطرة على التطبيقات التي تنشر أسعار تداول الدولار والذهب، وسيرها في اتجاه يعتمد على "التهويل والترويع"، دون أن يكون لتلك السياسات مردوداً إيجابياً على سعر الصرف.
ويقدر النحاس قيمة الدولار عند 39.20 جنيهاً، مرتكزاً على حساب سعر الصرف بالبنوك، مضافاً إليه أقصى عائد على شهادات الادخار والتي تبلغ 27%.
وبيّن أن تأخر الحكومة في تنفيذ التعويم على أساس واقعي، وإجبار السوق على بيعه بسعر بأقل من 39.20 جنيهاً، يعني التوجه إلى تحقيق سعر صرف مدار، يلتهم حصيلة الدولار القادمة من الخارج، يستمر لفترة بسيطة، ثم يعود سعر الدولار إلى السوق ليصعد بدرجات أكثر خطورة مما حدث خلال شهر يناير/ كانون الثاني الماضي حيث تجاوز 73 جنيهاً.
ويحذر النحاس من خطورة التهويل من حجم الصفقات التي أجرتها الحكومة، واستمرارها في بيع الأصول العامة، دون القدرة على تتبع الأموال التي يضخها المشترون للأراضي والأصول العامة، وإدارة سعر الصرف بالسوق الموازية بالتحكم في تطبيقات البيع عبر الإنترنت، حيث يلجأ بعض المشترين إلى تدبير أقساط الشراء بالدولار من السوق المحلية، بما يضغط على طلب شرائه، ويزيد من أزمة شح العملة الصعبة.
ويرجع النحاس الأزمة المالية التي تمر بها البلاد إلى أزمة في إدارة سوق الصرف، مؤكداً أن حجم تداول الدولار في السوق الموازية، وشراء سبائك الذهب، يبلغ نحو 20 مليار دولار، وهي أصبحت جاهزة للتوظيف داخل القطاع المصرفي.
بينما تنتظر الحكومة كعادتها، أن تبدأ مرحلة تعويم غير واضحة المدة والمعالم، بما يمنح المتاجرين بالأزمة فرصة لتهريب الأموال إلى الخارج، أو عمليات غسل الأموال.
يشير النحاس إلى أن الدولة إذا لم تستفد من نزول سعر الصرف في السوق الموازية، ولم يدخل الدولار والذهب المتداول على شكل سبائك كمدخرات، إلى القطاع المصرفي، على وجه السرعة، فإن الإجراءات التي تقوم بها الحكومة حالياً تمثل لعباً بالنار.
في تحليل للمحاضر بالجامعة الأميركية بالقاهرة، عمر قنديل، حول "صفقة رأس الحكمة: حل أم مهدئ؟"، حصلت عليه "العربي الجديد" يؤكد أن مصر تعاني من نقص واضح في العملة الصعبة وارتفاع التضخم والضغط المتزايد على الفقراء، لوجود عجز تجاري مزمن، يصل إلى 20%، في ميزان المدفوعات، يستنزف الاحتياطي من العملة الصعبة، ويدفع الدولة إلى الاقتراض، حتى بلغت الديون الخارجية 164.5 مليار دولار في سبتمبر/ أيلول 2023.
يوضح قنديل أن ندرة العملة الصعبة تعني حتماً ارتفاع الأسعار، ومع لجوء البنك المركزي إلى رفع أسعار الفائدة، وطبع مزيد من النقود، يتفاقم التضخم، ويقلل من قيمة الجنيه، ويدفع الوضع الاقتصادي نحو الأسوأ.
في تحليل للمحاضر بالجامعة الأميركية بالقاهرة، عمر قنديل، حول "صفقة رأس الحكمة: حل أم مهدئ؟"، حصلت عليه "العربي الجديد" يؤكد أن مصر تعاني من نقص واضح في العملة الصعبة
يذكّر قنديل المسؤولين بأن اتباع الحكومة النهج المتعمد ذاته في توظيف القروض وعوائد البيع للأصول، لمساعدتها في مواجهة زيادة الدولار في السوق السوداء، وإهمال الأمور المدمرة المتفشية داخل الاقتصاد، وإعادة إنتاج الآلام المجربة نفسها من قبل، لن يخفف من مشاكل العملة الصعبة.
وأكد الخبير الاقتصادي، أن مصر في حاجة ماسة لزيادة الصادرات لجلب العملة الصعبة، وتحفيز الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وخلق مناخ سياسي يفضي إلى نمو الأعمال التجارية والاستثمار.
وتتوقع مؤسسة فيتش للتصنيف الائتماني، استمرار التحديات المالية الملحة التي تواجه الحكومة، بسبب ارتفاع تكاليف الفائدة على الديون التي تلتهم 50% من إيرادات الموازنة العامة للعام 2024-2025، مع تحذير من مرور الاقتصاد بمرحلة صعبة حتى نهاية يوليو/ تموز 2025، بسبب ارتفاع معدلات التضخم وضعف معدلات النمو.
ونوّهت "فيتش" في تقرير أصدرته مطلع الأسبوع، بأن صفقة رأس الحكمة وفّرت متنفساً كانت الدولة في حاجة إليه، لاستعادة الثقة، مشددة على أن دوام التحسّن في الاقتصاد سيتوقف على تنفيذ الإصلاحات الهيكلية، التي تمنع تجدد الاختلالات، لزيادة الصادرات وتحقيق مرونة سعر الصرف.