هاجس "التسخين الاقتصادي" يقلق كبار المستثمرين في أميركا وأوروبا

07 يونيو 2021
صورة تذكارية أمام مقر "وول ستريت"
+ الخط -

تواجه البنوك المركزية في الاقتصادات الكبرى خيارات مرة في التعامل مع مخاطر "التسخين الاقتصادي"، والتعامل مع "فقاعة الأصول" المتنامية في أسواق المال والعقارات خاصة في أميركا وأوروبا، وكذلك تنامي مخاطر العملات الرقمية.

وترتفع أصوات كبار شخصيات الاستثمار وخبراء المال والاقتصاد في العالم بضرورة عودة البنوك المركزية العالمية لتشديد السياسات النقدية ووقف برامج شراء سندات الديون التي يتم من خلالها ضخ سيولة في الأسواق.

ويقصد بـ"التسخين الاقتصادي" النمو الاقتصادي السريع الذي يقود إلى "فقاعة اقتصادية" قد تضر بالأسواق المالية والنمو المتوازن الذي ينتهي إلى الركود أو حدوث كساد كبير شبيه بما حدث في أعقاب أزمات المال العالمية.

ويدعو مليارديرات وأساتذة اقتصاد إلى تلافي كارثة "التسخين الاقتصادي" عبر رفع نسبة الفائدة المصرفية ومواجهة الارتفاع الشرس في معدلات التضخم و"فقاعة أصول" بتشديد السياسة النقدية وإنهاء برامج شراء السندات الحكومية.

القيمة السوقية للأصول الأميركية ارتفعت إلى مستويات قريبة من المعدلات التي أدت إلى كارثة الانهيار الكبير الذي حدث في "وول ستريت" وسببت الكساد الكبير في 1928

في هذا الشأن، يقول الاقتصادي الزميل بمعهد "أميركان انتربرايز انستيتيوت"، ونائب المدير العام السابق بصندوق النقد الدولي، ديسموند لاشمان، أن القيمة السوقية للأصول في أميركا ارتفعت إلى مستويات قريبة من المعدلات التي أدت إلى كارثة الانهيار الكبير الذي حدث في "وول ستريت" وسبب الكساد الكبير في الولايات المتحدة في عام 1928.

كما ارتفعت أسعار العقارات الأميركية بمعدلات فوق المعدلات التي أدت إلى انهيار أسواق المال في عام 2008-2009.

ويشير لاشمان في مقال كتبه قبل يومين بنشرة "ذا هيل" التي تصدر في العاصمة الأميركية واشنطن إلى أن البنوك المركزية ضخت أموالاً لتحفيز الاقتصاد العالمي خلال العام الماضي تفوق كثيراً الحاجة الحقيقية، وهو ما رفع من حجم السيولة في السوق.

ومنذ بداية جائحة كورونا في العام الماضي، ارتفعت ميزانية بنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) بنحو 5 تريليونات دولار إلى 7.69 تريليونات دولار. ولا يزال الفيدرالي يواصل شراء سندات دين شهرياً تبلغ قيمتها 120 مليار دولار.

كما أن معدل الفائدة الأميركية يقارب الصفر ويراوح بين صفر و025%، وهو ما يعني أن المصارف التجارية والمؤسسات المالية تحصل على سيولة شبه مجانية وتقوم بضخها في الأسواق وإقراضها للمستهلكين. وبالتالي تفاعل من التسخين الاقتصادي، وكانت نتيجته الارتفاع السريع الذي شهدته أسعار العقارات والعديد من الأصول في سوق "وول ستريت".

وتشير إحصائيات جامعة ميشغان الأميركية في مسحها الأخير إلى أن أسعار السلع الاستهلاكية في أميركا ارتفعت بمعدل سنوي بلغ 6.25%، كما أن معدل التضخم السنوي ارتفع إلى 4.6%.

إدارة بايدن أقرت برنامج تحفيز يقدر بـ 1.9 تريليون دولار، وتتجه نحو ضخ 2.3 تريليونات دولار أخرى على شكل استثمارات في البنية التحتية

في المقابل، فإن إدارة بايدن منذ صعودها للسلطة أقرت برنامج تحفيز يقدر بـ 1.9 تريليون دولار، وتتجه نحو ضخ 2.3 تريليونات دولار أخرى على شكل استثمارات في البنية التحتية، وهو ما يعني أن الأموال التي ضخت في الاقتصاد منذ صعود بايدن للحكم تفوق كثيراً خسائر الاقتصاد، وأن هذا سيقود إلى النمو السريع و"تسخين الاقتصاد" التي تهدد بدورة كساد في المستقبل حينما تنفجر "فقاعة الموجودات".

من جانبه رفع المصرف المركزي الأوروبي ميزانيته بنحو 4 تريليونات دولار لتصل إلى 9.5 تريليونات منذ بداية جائحة كورونا بينما يواصل شراء سندات الديون بالدول الضعيفة اقتصادياً بمنطقة اليورو.

ويحذر الاقتصادي الأميركي لاشمان من أن المركزي الأوروبي يخاطر عبر مواصلة هذه السياسة النقدية بزيادة الضغوط التضخمية في دول منطقة اليورو الغنية، وعلى رأسها ألمانيا التي يشهد اقتصادها نمواً سريعاً.

ويواصل البنك شراء السندات الحكومية في دول بمنطقة اليورو، من بينها سندات إيطاليا والبرتغال وإسبانيا واليونان.

ويعلق لاشمان على ذلك التوجه قائلاً إن هذه السياسة التحفيزية المتواصلة تهدّد بأزمة ديون بمنطقة اليورو شبيهة بتلك التي حدثت في بداية العقد الماضي وأفلست بسببها العديد من الدول وكادت تؤدي إلى تفكك مشروع الاتحاد الأوروبي لولا تدخل صندوق النقد.

في ذات الشأن، انتقد المستثمر الكبير والملياردير الأميركي، دريكن ميلر، سياسات الاحتياطي الفيدرالي التي واصلت ضخ التريليونات في السوق دون النظر إلى العواقب السالبة التي ستترتب على السيولة النقدية في السوق.

وقال ميلر في تعليقات نقلتها مجلة "فوربس" إن "هنالك قلقاً بين المستثمرين من مخاطر حدوث اضطراب في أسواق المال بسبب الارتفاع المتواصل في معدل التضخم".

ووصف عمليات التحفيز التي تمت منذ العام الماضي بأنها غير مسبوقة في التاريخ الأميركي القريب وهي الكبرى منذ الحرب العالمية الثانية "1939-1945".

وحذّر المستثمر الأميركي الذي يملك صندوقاً كبيراً للتحوط، من مخاطر هذه السياسات، وقال إنها "تهدد استقرار سعر صرف الدولار، كما تهدد بانهيار الأصول المالية".
وأشار دريكن ميلر إلى أن الاقتصاد الأميركي عاد إلى وضعه الطبيعي قبل الجائحة، وآن الأوان أن يراجع مجلس الاحتياط الفيدرالي سياسته النقدية.

الملياردير الأميركي، دريكن ميلر: "قلق بين المستثمرين من مخاطر حدوث اضطراب في أسواق المال بسبب الارتفاع المتواصل في معدل التضخم"

وكان سعر صرف الدولار قد شهد تقلبات حادة خلال العام الجاري بسبب مخاوف المستثمرين من التضخم والارتفاع الكبير الذي شهده العائدة على سندات الخزينة الأميركية أجل 10 سنوات.

ويفسر مصرفيون عدم اهتمام مخططي السياسات النقدية في أميركا بالتضخم بقولهم إن مصرف الاحتياط الفيدرالي تبنى سياسة دعم أسواق المال والأصول الخطرة خلال السنوات الأخيرة، وهو يواصل هذه السياسة حالياً حتى مع ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي إلى مستوى 6.5%.

وربما تكون المنافسة الشرسة الجارية حالياً بين الولايات المتحدة والصين التي خرجت مبكرة من الجائحة وحققت معدل نمو بلغ 18.3% خلال الربع الأول من العام الجاري، من الدوافع الرئيسية وراء التضحية بالتضخم المرتفع في سبيل النمو الاقتصادي الكبير والسريع في الولايات المتحدة رغم مخاطرها.

وتسعى إدارة الرئيس جو بايدن إلى تحجيم التمدد الاقتصادي والتجاري الأميركي في العالم خلال العام الجاري عبر إنشاء تحالفات مع الاقتصادات الرأسمالية الكبرى مثل بريطانيا.
ولكن اقتصاديين يعطون أولوية لمكافحة "التسخين الاقتصادي" ويتخوفون من مخاطره على الانتعاش الأميركي غير المتوازن، حينما يعود بنك الاحتياط الفيدرالي في المستقبل لسياسة رفع سعر الفائدة ويلتفت لمكافحة التضخم، وذلك ببساطة لأن العديد من الأصول ذات المخاطر العالية ربما ستواجه رحلة هروب استثمارية منها ويقود ذلك تلقائياً إلى اضطراب في سوق المال.

في هذا الصدد يرى المتداول السابق بمصرف ميريل لينش الاستثماري الأميركي، هار لي باسمان، أن الاحتياط الفيدرالي ومنذ عام 2009 تبنى سياسة نقدية قائمة على "إجبار الأموال على الهجرة من الملاذات الاستثمارية الآمنة إلى الاستثمارات الخطرة، وذلك في سبيل تمويل النمو الاقتصادي الأميركي السريع".

تسعى إدارة بايدن إلى تحجيم التمدد الاقتصادي والتجاري الأميركي في العالم خلال 2021 عبر إنشاء تحالفات مع الاقتصادات الرأسمالية الكبرى

ويلاحظ أن هذه السياسة قادت تدريجياً إلى النمو المتواصل في قيمة سوق المال الأميركي التي ارتفعت بنهاية العام الماضي إلى أكثر من 50 تريليون دولار، وهو ما يعادل أكثر من ضعفي حجم الاقتصاد الأميركي.

وقادت سياسة ضخ الأموال الرخيصة في السوق التي نجحت في إنقاذ الاقتصاد من ضربات جائحة كورونا.

لكن هذه السياسات قادت إلى مخاطر عديدة في الولايات المتحدة، من بينها اختلال الدخول وتوزيع الثروة، إذ رفعت من ثروات من يملكون المليارات على حساب الطبقات العمالية وذوي الياقات البيضاء وكادت تقضي على الطبقة الوسطى التي تعد العمود الفقري في استقرار النظام الديمقراطي الغربي.

المساهمون