يبدو أن الصين قررت أن الوقت قد حان للخروج من الظل فيما يتعلق بوارداتها من النفط الخام، إذ تظهر تحركاتها فيما يتعلق بعلاقاتها بإيران وغيرها من الدول الكبرى المنتجة للنفط في الخليج العربي، أنها لن تقبل أي تدخل من الولايات المتحدة في أي جانب من جوانب توسعها في هذه المنطقة.
ولم يكن احتجاز إيران ناقلات نفط في خليج عمان، نهاية إبريل/نيسان الماضي ومطلع مايو/أيار الجاري، مجرد حوادث منفردة بعيدة عن التغيرات الجيوسياسية التي يشهدها العالم منذ اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، نهاية فبراير/شباط الماضي، وفق محللين وتقارير متخصصة في قطاع الطاقة.
على الرغم من عدم تورط أي من العسكريين الصينيين بشكل مباشر في عمليات الاحتجاز هذه، فإن الصين تقدم الدعم من وراء الكواليس لإيران، وفق المحللين، الذين رأوا أن تحركات الصين في المنطقة لا تقتصر فقط على دعم إيران، وإنما التقارب أكثر مع السعودية، أكبر مصدّر للنفط في العالم، والحضور بفاعلية في مكامن إنتاج النفط في العراق.
في الثالث من مايو/أيار الجاري، احتجزت قوات بحرية تابعة للحرس الثوري الإيراني ناقلة النفط "نيو في" التي ترفع علم بنما، في مضيق هرمز الاستراتيجي، وفق ما أعلن حينها الأسطول الخامس التابع للبحرية الأميركية. وقالت طهران إن الاحتجاز لم يكن مصادفة، بل جاء "بناء على شكوى وأمر من السلطة القضائية".
وجاءت عملية الاحتجاز هذه بعد نحو أسبوع من احتجاز البحرية الإيرانية أيضا ناقلة نفط أخرى هي Advantage Sweet في خليج عُمان، كانت متجهة نحو الولايات المتحدة، وترفع علم جزر مارشال. وبررت إيران، وقتها، عملية الاحتجاز بأن الناقلة اصطدمت بسفينة إيرانية. وهذه الناقلة كانت تحمل 800 ألف برميل من النفط الخام العراقي لصالح شركة النفط الأميركية العملاقة "شيفرون".
جاء احتجاز ناقلتي النفط وسط دعم ضمني من الصين لإيران، وفقاً لمصدر يعمل عن كثب مع جهاز أمن الطاقة في الاتحاد الأوروبي وآخر له علاقات وثيقة مع وزارة النفط الإيرانية، تحدثا لنشرة "أويل برايس" الأميركية المتخصصة في أخبار الطاقة.
وأشارت "أويل برايس" إلى أن الصين تريد أن تضع علامة واضحة على أنها لن تتسامح مع تدخّل الولايات المتحدة في أي من تعاملاتها مع حلفائها الرئيسيين في الشرق الأوسط، وإيران على رأس هذه القائمة.
ووفق المصدر الإيراني: "لا تعترف الصين بالنظام الاقتصادي الجيوسياسي أحادي القطب الذي تواصل الولايات المتحدة محاولة فرضه على الدول الأخرى، ولن تتسامح بكين مع فرض هذه الفكرة ضد مصالحها"، مشيرا إلى أن الصين تتحرك من منطلق الاتفاقية الاستراتيجية التي أبرمتها مع إيران قبل عامين، وتشمل التعاون طويل المدى في الكثير من المجالات.
وكانت الصين قد وقّعت في عام 2021 اتفاقية استراتيجية واسعة النطاق لمدة 25 عاماً مع إيران، التي تفرض عليها الولايات المتحدة عقوبات قاسية تخنق اقتصادها. وتعدّ الصين أكبر شريك تجاري لإيران، كما كانت أحد أكبر مشتري النفط الإيراني، قبل أن يعيد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب فرض العقوبات على طهران في عام 2018، بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي المبرم في عام 2015. وقال المصدر الإيراني: "بموجب اتفاقية التعاون الشامل بين إيران والصين لمدة 25 عاماً، تتمتع الصين بوصول واسع النطاق إلى العديد من العناصر الرئيسية لقطاعات الطاقة والاقتصاد في إيران".
الصين حاضرة بما فيه الكفاية
وبحسب تقرير "أويل برايس"، فإن عمليات الاحتجاز الإيرانية الأخيرة لناقلات النفط، تظهر أن الصين حاضرة بما فيه الكفاية، "فلديها الآن سيطرة بالوكالة على مضيق هرمز عبر إيران، والذي يمر عبره ما لا يقل عن 30% من النفط الخام في العالم، كما يمكنها أيضا عبر الوكلاء السيطرة على مضيق باب المندب، الذي يتم من خلاله شحن النفط الخام إلى أعلى عبر البحر الأحمر باتجاه قناة السويس في مصر، قبل أن ينتقل إلى البحر الأبيض المتوسط باتجاه الغرب".
وأشار التقرير إلى أن "اليمن الذي يقع على جانب مضيق باب المندب عند الطرف الجنوبي للبحر الأحمر، كان يخضع في السابق لسيطرة الحوثيين المدعومين من إيران، ولكنه يخضع الآن أيضاً لاتفاق العلاقة الجديد الذي توسطت فيه الصين بين إيران والمملكة العربية السعودية".
وتضمن الصين الحصول على النفط والغاز من إيران بأسعار أقل بنسبة 30% عن الأسعار العالمية، وفق "أويل برايس". واعتباراً من 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، تدفع الصين لإيران بعملة اليوان، كما تستخدم عملات أنغولا وزامبيا وكينيا للدفع لإيران، والصين تفعل ذلك كوسيلة لحث إيران على شراء البضائع من هذه البلدان المقترضة من الصين ولديها تعاملات واسعة معها، وفق التقرير.
وأشار التقرير إلى أن "المثير للاهتمام أن الصين يبدو أنها قررت أن الوقت قد حان للخروج من الظل فيما يتعلق بوارداتها من النفط الخام من إيران، بينما كانت في السابق تخفي وارداتها النفطية الضخمة من هذا البلد بعدة طرق لخضوعه لعقوبات أميركية قاسية، أبرزها إعادة تسمية النفط الإيراني على أنه نفط عراقي، اعتماداً على أن العراق وإيران يشتركان في العديد من مكامن النفط".
وسلّط وزير البترول الإيراني السابق، بيجن زنغنه، الضوء على هذه الممارسة بالذات، عندما قال في عام 2020: "ما نصدّره ليس باسم إيران". علاوة على ذلك، كان يجري تفريغ النفط من ناقلات إلى أخرى في عرض البحر خارج الموانئ، لتصل في النهاية إلى الصين. كل ذلك لم تعد الصين تشعر بالحاجة إليه الآن أو الرغبة في عدم الاصطدام بالولايات المتحدة.
وتظهر التحركات الإيرانية ليس فقط على صعيد الدعم المقدم لإيران، وإنما أيضا التقارب مع دول الخليج الغنية بالنفط، واعتماد عملة اليوان في التبادلات التجارية مع هذه الدول، أن نظاماً عالمياً جديداً يتشكل في سوق النفط.
الاعتماد على الدولار يتراجع
ووفق تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، فإن تجارة النفط العالمية تتراجع عن اعتماد الدولار في التداولات "ببطء، لكن بثبات"، مشيرة في تقرير لها إلى أنه "في وقت كانت الصين لبعض الوقت تشتري كميات متزايدة من النفط والغاز الطبيعي المسال من إيران وفنزويلا وروسيا وأجزاء من أفريقيا، بعملتها الخاصة، فإن اجتماع الرئيس الصيني شي جين بينغ مع قادة مجلس التعاون الخليجي، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، كان بمثابة ولادة البترويوان".
وأضاف التقرير أن "الصين تريد إعادة كتابة قواعد سوق الطاقة العالمية، كجزء من جهد أكبر أيضاً لإزالة الدولار عما يسمى بلدان "بريك" (البرازيل وروسيا والهند والصين) وعدد من الأجزاء الأخرى من العالم. وتابعت أن "من شأن ذلك أن يمثل تحولاً هائلاً في تجارة الطاقة العالمية".
وتمتلك روسيا وإيران وفنزويلا 40% من احتياطيات النفط المؤكدة في العالم، وكلها تبيع النفط للصين، مع منحها خصماً كبيراً. كما تمثّل دول مجلس التعاون الخليجي 40% أخرى من الاحتياطيات المؤكدة. وتوجد الـ20% المتبقية في شمالي وغرب أفريقيا وإندونيسيا، وهذه المناطق داخل المدار الروسي والصيني، وفق الصحيفة البريطانية.
وأظهرت بيانات صادرة عن الإدارة العامة للجمارك الصينية نهاية إبريل/نيسان الماضي، أن واردات الصين من النفط الخام ارتفعت بنسبة 22.5% على أساس سنوي في مارس/آذار إلى أعلى أحجام شهرية في ما يقرب من ثلاث سنوات، حيث تعمل المصافي على زيادة إنتاج الوقود لتلبية الطلب المتزايد المتوقع من قبل الشركات.
واستوردت الصين في ذلك الشهر ما يصل إلى 52.3 مليون طن من النفط الخام، وهو أعلى مستوى في أي شهر منذ يونيو/حزيران 2020، وأعلى بكثير من واردات النفط الخام البالغة 10.1 ملايين برميل يومياً في مارس/آذار 2022. وارتفعت واردات الصين من النفط الخام بنسبة 6.7% في الربع الأول، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022، وفقًا لبيانات الجمارك الصينية.