قبل نهاية الربع الأول من العام الماضي، أدرك المستثمرون وصانعو القرار في أغلب شركات إدارة المحافظ الأميركية حجم الجائحة التي ضربت العالم وتسببت في وفاة الملايين حتى الآن، ومدى تأثيرها على اقتصادات الدول من خلال تراجع الطلب والعرض في آنٍ واحد، فاندفع الجميع إلى بيعٍ محموم للأسهم الأميركية، الأمر الذي تسبب وقتها في انخفاض المؤشرات الرئيسية بنسب تجاوزت ثلاثين بالمائة.
لجأ الجميع إلى خبراء الاستثمار حول العالم بحثاً عن النصيحة، فكانت أغلب الردود تشير إلى توقع استمرار الموجة البيعية وتدهور أسعار الأسهم، لفترة لا تقل عن سنة، وربما أكثر من ذلك. وكان من بين من استطلعت آراؤهم في أكثر من وسيلة إعلامية ثعلب الاستثمار العجوز وارين بافيت، الذي قال وقتها إنه سيتخلص من كل ما في محفظته من أسهم شركات الطيران.
ووفقاً لوسائل الإعلام، كان سهم شركة يونايتد إيرلاينز على رأس تلك الأسهم التي قرر بافيت بيعها، وكان سعره في اللحظة التي قرر معجزة الاستثمار الأميركية أن يبيعه يدور حول عشرين دولاراً.
وقبل مرور عامٍ واحد على تلك الواقعة، سجل سعر السهم 60 دولاراً، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف السعر الذي قرر بافيت بيعه عنده، إلا أن هذا لا يعني بأي حال من الأحول التشكيك في قدرات العبقري الذي تتجاوز ثروته حالياً مائة مليار دولار، يحتل بها المرتبة العاشرة بين أكبر أغنياء العالم، والذي احترف مهن مختلفة مرتبطة بالاستثمار قبل أكثر من سبعة عقود، وأصبح الآن أحد أهم مديريه وفلاسفته، ويشغل حالياً منصب الرئيس التنفيذي لعملاق الاستثمار، شركة "بركشاير هاثاواي"، التي تدير أصولاً تقترب قيمتها من تريليون دولار (ألف مليار) ويتجاوز سعر السهم الواحد فيها مبلغ 430 ألف دولار.
ورغم الإخفاق الواضح في التعامل مع ما كان بحوزته من أسهم وقت احتدام الأزمة الصحية قبل ما يقرب من عشرين شهراً، ما زال بافيت واحداً من أهم من يتم اللجوء إليهم للنصيحة في الولايات المتحدة، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق، عند الاقتراب من الأزمات. ومع ما نلحظه حالياً من ارتفاع في معدل التضخم في أغلب بلدان العالم، ووجود توقعات بوصوله إلى مستويات غير مشهودة في عقود، سُئل بافيت، فنصح بثمان.
أما الأولى، فكانت العمل على كسب المزيد حتى يمكن التغلب على ما يسببه التضخم من انخفاض القوة الشرائية للنقود، من خلال العمل ساعات أطول، أو الانخراط في عمل إضافي، أو حتى استغلال الوقت في اكتساب المزيد من المهارات للحصول على وظيفة براتب أعلى.
وأما الثانية، فكانت الاستثمار في سوق الأسهم، حيث تؤكد الإحصائيات أن ارتفاع أسعار الأسهم (وهو هنا يتحدث عن الأسهم الأميركية)، فاق في أغلب الأحوال معدل التضخم بنسب غير قليلة، خاصة لو تم توجيه الاستثمارات إلى الشركات التي تسمح ظروفها والسلع التي تنتجها بالاستفادة من ارتفاع الأسعار، مثل قطاعات الأغذية والتكنولوجيا ومواد البناء والطاقة.
وكانت الثالثة الاستثمار في المعادن النفيسة كالذهب والفضة، سواء بصورة مباشرة من خلال شراء السبائك، أو بصورة غير مباشرة من خلال الاستثمار في الصناديق التي يتم تداولها في البورصة ETF والتي تضع نسبة من استثماراتها في تلك المعادن. أما شراء الحلي فلا يضمن تعويض خسائر انخفاض القوة الشرائية مع التضخم ،بسبب ما يطلق عليه في عدد من البلدان العربية "المصنعية".
والرابعة الاستثمار في العقارات، من خلال دفع مقدم شراء منزل، ومحاولة اختيار أطول فترة تقسيط، مع أقل معدل فائدة متاح.
أما الخامسة فكانت الدعوة إلى تجنب الاقتراض بفائدة متغيرة، حيث تتجه البنوك المركزية في أغلب الأحيان لرفع معدلات الفائدة على الأدوات التي يتم تسعير القروض متغيرة الفائدة على أساسها، ويطلق عليها Benchmark. ومن أشهر أمثلة تلك النوعية من القروض تأتي الأرصدة المدينة على بطاقات الائتمان وأقساط القروض العقارية متغيرة الفائدة، والتي تقوم البنوك برفع معدلات الفائدة المطبقة عليها مع ارتفاع معدل التضخم.
والسادسة استبدال القروض مرتفعة الفائدة، والتي يمكن أن يكون البعض قد تورط فيها بسبب انخفاض تصنيفه الائتماني في مرحلة ما، بقروض ذات تكلفة أقل، من أجل إتاحة حصة أكبر من الدخل للإنفاق.
ثم كانت النصيحة السابعة، التي تتعلق بتخفيض النفقات من خلال البحث عن تكلفة أقل للتأمين على المنزل أو السيارة أو التأمين الصحي، مع العمل على استخدام العروض التي تقدمها الشركات والبنوك، والتي يقول بافيت نفسه إنه دائم البحث عنها.
وخص بافيت الأثرياء بالثامنة، حيث نصحهم بتجاهل كل ما سبق لو كانت ثرواتهم تسمح لهم بالتعامل مع الارتفاعات المتوقعة في الأسعار، مع التوجه لاستثمار جزء من مدخراتهم في صناديق الاستثمار بالبورصة، من أجل الحصول على بعض الأموال الإضافية.
جاءت نصائح بافيت من ملياردير، فبدت ملائمة أكثر لأصحاب الثروات، إلا أن بعضها يسمح لمتوسطي ومنخفضي الدخل بالاستفادة، وفي النهاية، هي بالتأكيد مجرد اجتهادات لا يعرف أحد إن كانت سليمة أم خاطئة.
وفي كل الأحوال، هو بشري، يخطئ، ويصيب، ويستمع أحياناً لنصائح آخرين، ويستجيب لها. فعلى سبيل المثال، تزوج بافيت من سوزان طومسون عام 1952، لكنها تركته عام 1977 سعياً وراء حلم احتراف الغناء، إلا أنها بقيت زوجة له حتى وفاتها عام 2004. وقبل انصرافها عنه، أتت له بإحدى صديقاتها واسمها أستريد، لتكون بديلاً لها أثناء غيابها، ثم ليتزوجها بافيت رسمياً بعد وفاة سوزان.
سمحت إمكانات الرجل المادية بحياة مستقرة هادئة لما يقرب من ثلاثة عقود، دون أية منغصات، بخلاف انخفاض أسعار الأسهم في بعض الأحيان، ويقول أصدقاؤهم إن بطاقات التهنئة بالأعياد كانت تخرج من مكتب بافيت وعليها توقيع ثلاثي "بافيت، سوزي، وأستريد".