06 أكتوبر 2020
+ الخط -

أن تعلن الحكومة المصرية أن البلاد تمر بأزمة اقتصادية غير مسبوقة جراء تبعات وخسائر وباء كورونا، وما أحدثه من خسائر فادحة للاقتصاد جراء توقف أنشطة رئيسية مثل السياحة والطيران والاستثمارات الأجنبية المباشرة وتجارة التجزئة وغيرها، فهذا كلام واقعي ومنطقي ومقبول، وهو بالمناسبة ليس عيباً ولا نقيصة، فمعظم حكومات العالم فعلت ذلك واعترفت بتكبدها خسائر ضخمة جراء جائحة كورونا.

بل إن الحكومة المصرية نفسها بالغت في الحديث عن تلك الخسائر المتعلقة بكورونا قبيل فترة الحصول على قرضين عاجلين من صندوق النقد الدولي بقيمة 8 مليارات دولار في شهري مايو ويونيو الماضيين، ربما في محاولة لإقناع الرأي العام المحلي بخطوة تهافتها على الاقتراض الخارجي والتوسع فيه وأنها مجبرة عليها رغم وعودها المتكررة بالحد من تلك القروض، وربما لإقناع المؤسسات المالية الدولية بسرعة مساندة الاقتصاد المصري.

وأن تعترف الحكومة المصرية بأن الاقتصاد دخل مرحلة انكماش، أو على الأقل توقف عن النمو، فهي بذلك تتماشى مع المؤشرات العالمية التي تؤكد أن الاقتصادات الكبرى دخلت أيضا تلك المرحلة بل وبشكل حاد.

رأينا ذلك في الولايات المتحدة التي انكمش اقتصادها بنسبة 32.9% في الربع الثاني من العام الجاري، وهو أعلى انكماش منذ الكساد العظيم في العام 1929، بل أعلى انكماش في تاريخ الولايات المتحدة. كما انكمش الاقتصاد الهندي بنسبة 23.9% والياباني 28.1% والتركي بنسبة 9.9% وهو أسوأ انكماش في 10 سنوات.

كما أصاب الكساد الاقتصادات الأوروبية الكبرى في الربع الثاني من العام الجاري، فالاقتصاد البريطاني انكمش بنسبة مرتفعة بلغت 19.8%، والألماني بنسبة 9.7%، وانكمش الاقتصاد الفرنسي بوتيرة قياسية تعد الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية " 1939-1945" بلغت 13.8%، حيث انهار الاستهلاك والاستثمار والتجارة في ظل إجراءات العزل العام الهادفة لاحتواء الجائحة.

وانكمش إجمالي الناتج المحلي في إيطاليا 12.8%، والإسباني 18.5%، والبولندي 8.2%. ومع هذا الانكماش انخفض الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول وتراجعت فرص العمل وزادت البطالة وتعطل الإنتاج، وقد اعترفت دول العالم بذلك في اطار سياسة الشفافية التي تتعامل بها مع شعوبها وإلا ما استحقت ثقتهم.

حتى الاقتصادات العربية أصابها أيضا الانكماش، فالاقتصاد السعودي، أكبر اقتصاد في المنطقة، انكمش بنسبة 7% في الربع الثاني من العام الجاري، والمغربي 14.9%، والأردني 3.6%، وتوقع معهد التمويل الدولي تعميق انكماش الاقتصاد اللبناني من 15% لعام 2020 إلى 24% خلال هذا العام خاصة وأن البلاد تعاني بالفعل من أسوأ أزمة مالية واقتصادية منذ استقلالها عام 1943.

وأن تعترف الحكومة المصرية بتفاقم أزمة البطالة في البلاد لأسباب عدة منها كورونا، وعودة عشرات الآلاف من المصريين من منطقة الخليج، ووقف نشاط البناء لمدة 6 شهور، وركود الأسواق وانخفاض القدرة الشرائية، وتراجع نشاط السياحة الذي يعمل بها ما بين 10 ملايين ما بين عمالة مباشرة وغير مباشرة، فهذا شيء لا يعيبها خاصة وأن كل دول العالم أصابها داء البطالة.

فالمعدل مثلا في الولايات المتحدة تضاعف 10 مرات مقارنة بأرقام ما بعد الأزمة المالية العالمية في العام 2008، كما تقدم 44 مليون أميركي بطلب للحصول على إعانة بطالة، وكذا الحال في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من الاقتصادات الكبرى.

حتى دول الخليج أصابها داء البطالة، فقد ارتفع معدل البطالة مثلا في السعودية إلى 15.4% في الربع الثاني من العام مقابل 11.8% في الربع الأول بسبب تراجع الأداء الاقتصادي وتوقف أنشطة حيوية مثل العمرة والسياحة وتهاوي إيرادات النفط.
لكن الحكومة المصرية لم تفعل ذلك، فهي لم تعترف بحدوث أي انكماش في الاقتصاد، رغم التأثيرات الخطيرة لفيروس كورونا على نشاط السياحة والذي يخسر أكثر من مليار دولار شهريا بشهادة خالد العناني، وزير السياحة والآثار، وتراجع إيرادات البلاد من الصادرات وتحويلات المغتربين والاستثمارات المباشرة وقناة السويس.

ولم تعترف الحكومة المصرية كذلك بحدوث قفزة في معدلات البطالة رغم تأثيرات الجائحة الخطيرة على قطاعات العمالة غير المنتظمة بما فيها الموسمية والبالغ عددها نحو 14 مليون عامل يمثلون نحو 55% من قوة العمل، وتأثر أنشطة الطيران والصناعات التحويلية وخدمات الغذاء والإقامة والتخزين والتشييد والبناء وتجارة الجملة والتجزئة وغيرها من الأنشطة الاقتصادية. 

فالحكومة لم تعترف بتلك القفزة في معدلات البطالة التي طاولت ملايين المصريين، بل تعترف فقط بوجود 2.5 مليون عاطل عن العمل وبما يمثل 9.9% فقط من إجمالي قوة العمل، أما بالنسبة لمعدلات الفقر فقد توقفت عن إعلان أرقامها بعد أن شهدت قفزة عقب تطبيق ما يسمى ببرنامج الإصلاح الاقتصادي في أكتوبر 2016، وما تبعه من قفزات في معدل الفقر بما فيه المدقع بشهادة البنك الدولي.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

بل إن التصريحات الأخيرة الصادرة عن وزراء بالحكومة المصرية تشير إلى أن الحكومة تريد أن تصنع حالة من النجاح الاقتصادي الذي لا يستند لحقائق بل مجرد تصريحات، وإن شئنا الدقة تريد أن تصنع نجاحا اقتصاديا بالعافية وليس نجاحا مستندا إلى حقائق يلمسها المواطن على الأرض، وأن تصور للرأي العام المحلي أن دول العالم لا زالت تتسابق على الاستفادة من برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري وتطبيقه رغم الخسائر التي لحقت باقتصاد البلاد جراء كورونا والتي قدرها وزير المالية محمد معيط بنحو 127 مليار جنيه، في حين قدرتها مؤسسات حكومية ودولية بأكثر من ذلك.

فرئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، يصرح لوسائل الإعلام يوم 24 سبتمبر، بأن مصر تعد من الدول القليلة على مستوى العالم التي ينمو اقتصادها بالإيجاب وليس بالسلب في ظل تفشي وباء كوفيد-19، وأن التصنيفات الدولية تؤكد قدرة الاقتصاد المصري على النمو بالإيجاب خلال الفترة المقبلة.

ومجلس الوزراء يعلن قبل أيام أنه استعرض تقارير دولية تؤكد أن اقتصاد مصر لا يزال قويًا وراسخًا وينمو بشكل حقيقي يجعلها الأقوى بين الأسواق الناشئة.

ووزيرة التعاون الدولي رانيا المشاط، تغرد يوم الأحد على تويتر، قائلة: "نفخر بأن نعلن أنه من المتوقع أن ينمو الاقتصاد المصري بشكل إيجابي في عام 2020، مما يجعله الاقتصاد الوحيد الذي ينجو من الركود وفقًا لـ EBRD تقرير الآفاق الاقتصادية الإقليمية.

ووزيرة التخطيط هالة السعيد تتحدث يوم الأحد عن ثلاثة عوامل رئيسة ساعدت على صمود الاقتصاد المصري فى مواجهة أزمة كورونا، وعن مجموعة الإجراءات الاستباقية لمواجهة الجائحة والتي تضمنت 373 إجراء، منها الإعفاءات الضريبية وتوفير السيولة وزيادة موازنة وزارة الصحة بنسبة 100%.

ولم يقف الأمر عند حديث الوزراء عن صمود الاقتصاد المصري وقوته في وجه جائحة كورونا، بل انضمت أطراف أخرى لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالملف الاقتصادي، فيوم الأحد أشاد عمرو السنباطي، رئيس مجلس إدارة نادي هليوبوليس، بالأداء الاقتصادي المتنامي، والذي لاقى استحسان المنظمات الدولية المعنية بالشأن الاقتصادي على حد قوله. 

وحسب تصريحات رئيس النادي الاجتماعي الشهير في مصر، فإن "التقارير الاقتصادية التي خرجت تشيد بالاقتصاد المصري، تؤكد على أن النظام المصري كان على حق عندما اتخذ إصلاحات حققت الاستقرار الاقتصادي المطلوب، وكذبت كل ادعاءات أعداء الوطن. كما أن مصر حققت معدلات نمو غير مسبوقة، فضلا عن التحسن في تصنيف الاقتصاد من قبل مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية، وهو ما يساهم في جذب الاستثمارات القادرة على توفير العديد فرص العمل".

وتسابقت وسائل إعلام مصرية في الحديث عن صمود الاقتصاد المصري أمام كورونا مع سرد أخبار غير دقيقة عن تحسن المؤشرات ومنها السياحة والصادرات وقناة السويس والاستثمارات الأجنبية وارتفاع تحويلات المصريين بالخارج، في الوقت الذي أكدت فيه تلك الوسائل أن الاقتصاد العالمي يعاني من الركود والانكماش والبطالة والتقشف والإفلاسات والتعثر والفقر ونقص الغذاء وإغلاق المصانع.

بل إن موقعا إخباريا راح يؤكد أن مؤشرات البطالة في مصر أفضل من أميركا، حيث وصل المعدل في مصر إلى 7.5% فقط، في الوقت الذي يعاني فيه المواطن الأميركي من بطالة متفاقمة اعترف بها دونالد ترامب.

أن يصل الاقتصاد العالمي بما فيه الاقتصادات القوية والكبرى إلى القاع، فهذا أمر منطقي وطبيعي في ظل زيادة المخاطر الناتجة عن كورونا والموجة الثانية منه، أما وأن تتحدث الحكومة المصرية عن صمود الاقتصاد الوطني، وأنه الأفضل بين الاقتصاديات المختلفة، فهذا أمر غير واقعي ومختلق.

فأي أمارة ودليل على ذلك ونحن نتحدث عن أن نصف الأسر المصرية تقوم بالاقتراض من الغير لمواجهة الاحتياجات المعيشية المتفاقمة بشهادة جهاز الإحصاء الرسمي، وأن نحو 17% تعتمد على مساعدات أهل الخير، ونحو 5.4% فقط من الأسر حصلت على منحة العمالة غير المنتظمة.

يا سادة، انتهى عصر الشعارات البراقة والأخبار الكاذبة والأرقام المضروبة، فالمؤشر الوحيد على صدق الأرقام المتعلقة بأي اقتصاد هو حال المواطن، والواقعية والصدق يكسبان أي اقتصاد مصداقية دول العالم وقبلها ثقة المستثمرين، أما الحديث عن الصمود وغيره من المصطلحات العسكرية التي تستدعيها حكومات وكأنها في زمن الحرب فهو لا يجدي مع الأرقام المتراجعة والواقع المر للمواطن.

المساهمون