- الرئيس الصيني يحاول إصلاح العلاقات مع أوروبا خلال جولته الأوروبية، بينما يسعى الأوروبيون للحفاظ على علاقة متوازنة مع الصين دون المساس بمصالحهم الاقتصادية والأمنية، مع التأكيد على أهمية الوحدة الأوروبية.
- الاتحاد الأوروبي يتخذ إجراءات ضد النفوذ الصيني، مثل فرض قيود على شركات التكنولوجيا وتحقيقات في واردات السيارات الكهربائية، فيما تسعى الصين لتعزيز التعاون وحل الخلافات من خلال الحوار، مع توقعات بمزيد من التحديات والفرص للتعاون.
عندما وطئت قدم الرئيس الصيني شي جين بينغ، أوروبا قبل خمس سنوات، بدت وجهات النظر الأوروبية تجاه بكين والمشهد الجيوسياسي الأوسع، مختلفة بشكل كبير عن الجولة الحالية التي يجريها في ظل توترات تجارية متصاعدة بسبب السياسات التجارية للصين التي أدت إلى استنزاف الصناعات الأوروبية المهمة، فضلا عن الانتقادات الأوروبية الواسعة للعلاقات الصينية مع روسيا.
في عام 2019، لم تكن جائحة فيروس كورونا قد خنقت العالم بعد، وكان لا يزال أمام روسيا سنوات قبل أن تشن حربها الواسعة على أوكرانيا. ولم تكن السيارات الكهربائية الصينية قد غمرت الأسواق الأوروبية بعد، كما لم تكن القارة تتوقع أن تتعرض مصانعها للإغلاق في يوم ما، بسبب الإغراق الصيني لأسواقها بالسلع. لكن المواقف الأوروبية تجاه الصين تبدلت وتدهورت بشكل كبير في السنوات التي تلت ذلك، بسبب الانقسامات التجارية العميقة والإحباطات بشأن تعاون بكين الاقتصادي والعسكري الموسع مع موسكو.
ومع رحلة "شي" التي بدأت الأحد الماضي لمدة ستة أيام وتشمل محطات في فرنسا وصربيا والمجر، يأمل الزعيم الصيني في إصلاح العلاقات بشأن الحرب الروسية الأوكرانية وإضعاف المساعي الأوروبية الرامية إلى فرض قيود على سلع بلاده في إطار سياسة "إزالة المخاطر" كما يطلق عليها الأوروبيون.
وكما أن هذه الزيارة ليست بسهولة سابقتها بالنسبة للرئيس الصيني فإنها أيضا بمثابة اختبار للأوروبيين الذين يريدون وضع حد للعديد من الملفات التي يخشون تفاقمها وفي نفس الوقت لا يريدون تعريض العلاقات مع شريك تجاري رئيسي للخطر. أي محاولة للوقوف في وجه بكين ستتطلب الوحدة بين الزعماء الأوروبيين، ولدى الصين سجل طويل في لعبة فرق تسد مع العواصم في جميع أنحاء القارة، وفق تقرير لصحيفة وول ستريت الأميركية.
وحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي التقى الرئيس الصيني، الاثنين، في المحطة الأولى من زيارته، إظهار جبهة موحدة من خلال دعوة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين للانضمام إليه في باريس في بداية اجتماعاته مع شي. وكانت فون ديرلاين شوكة في خاصرة بكين، إذ اتهمت الصين بالسعي إلى الهيمنة العالمية وحذرت من أن علاقات أوروبا مع بكين ستتشكل من خلال تصرفاتها فيما يتعلق بأوكرانيا.
والصين بمثابة شريان الحياة الاقتصادي لروسيا منذ بداية الحرب، حيث قدمت لموسكو الدعم الحاسم في سعيها لإعادة بناء قدرتها العسكرية. بينما لم تزوّد بكين موسكو بالأسلحة، فإن المسؤولين الأميركيين يقولون إنها زودت القوات الروسية بصور الأقمار الصناعية وباعت للبلاد شرائح دقيقة وأجزاء طائرات مقاتلة وأدوات آلية ومعدات أخرى ذات استخدام مزدوج لتعزيز قواتها المسلحة. وتعد بكين أيضاً مشترياً هائلاً للوقود الأحفوري الروسي.
أوروبا تفرض قيود على ثلاث شركات تكنولوجيا صينية
وفي فبراير/شباط الماضي، وافق الاتحاد الأوروبي على فرض قيود تجارية على ثلاث شركات للتكنولوجيا والإلكترونيات في الصين للمرة الأولى منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا قبل نحو عامين، بسبب ما تقول بروكسل إنها تبيع سلعاً قابلة للاستخدام عسكرياً. ويقول مسؤولون في الاتحاد الأوروبي إن المزيد من القيود قد يتم فرضها في الفترة المقبلة.
كما استخدم الاتحاد الأوروبي قانوناً جديداً لمكافحة الدعم لبدء تحقيق في واردات السيارات الكهربائية من الصين. وفي الشهر الماضي، استخدمت الأداة نفسها لشن مداهمات فجراً على مكاتب شركة المعدات الأمنية الصينية "Nuctech". وهناك أيضاً مخاوف متزايدة بشأن التجسس الصيني المزعوم والتجسس الإلكتروني وأشكال التدخل الأخرى. وفي إبريل/ نيسان الماضي، قامت السلطات البريطانية والألمانية باعتقالات بسبب التجسس الصيني المزعوم.
وقال نوح باركين، أحد كبار المستشارين في شركة الأبحاث "روديوم": "أعتقد أن أوروبا لديها أوراق ضغط على الصين"، موضحا: "يحتاج الصينيون إلى الوصول إلى الاستثمارات الأوروبية والتكنولوجيا الأوروبية، لكن النفوذ الأوروبي هذا لن ينجح إلا إذا كانت أوروبا موحدة وترسل نفس الرسالة".
في حين كانت الانقسامات الأوروبية واضحة مع استمرار التحقيق في السيارات الكهربائية. ولا تزال شركات وموردو السيارات الألمانية راسخة بعمق في السوق الصينية. كما أن أي تعريفات جمركية للاتحاد الأوروبي على واردات السيارات الكهربائية من الصين من شأنها أن تخاطر بانتقام بكين من صناعة السيارات الألمانية، بينما ترحب شركات صناعة السيارات الفرنسية، التي تنتج سيارات منخفضة السعر وأكثر عرضة للواردات الصينية، بتحقيق الاتحاد الأوروبي. وردت الصين في يناير/كانون الثاني على تحقيق السيارات الكهربائية بفتح تحقيق لمكافحة الإغراق في الخمور المستوردة من الاتحاد الأوروبي. ويُنظر إلى هذا الإجراء على نطاق واسع على أنه يستهدف فرنسا.
وكانت الانقسامات الأوروبية واضحة للعيان عندما زار المستشار الألماني أولاف شولتز الصين الشهر الماضي. ولم يقدم أي دعم علني لتحقيقات المفوضية الأوروبية بشأن مكافحة الدعم والتزم الصمت بشأن الرسوم الجمركية التي فرضتها الصين على الخمور. كما امتنع شولتز عن توبيخ بكين علناً بشكل مباشر بشأن دعمها المستمر لحرب روسيا في أوكرانيا. وطلب ماكرون من شولتز أخيراً الانضمام إلى محادثات هذا الأسبوع مع شي، لكن المستشار الألماني رفض مستشهدا بخططه للسفر إلى دول البلطيق، الاثنين، وفق ما نقلت "وول ستريت جورنال".
وستتاح لـ"شي" الكثير من الفرص لبث بذور الانقسام خلال رحلته التي تشمل صربيا والمجر. وفي بلغراد يحضر الذكرى الخامسة والعشرين لقصف حلف شمال الأطلسي للسفارة الصينية هناك. وفي السابع من مايو/أيار 1999، أثناء عملية الناتو العسكرية في يوغوسلافيا السابقة، أطلق صاروخ على البعثة الدبلوماسية الصينية في بلغراد، مما أسفر عن مقتل ثلاثة مواطنين صينيين وإصابة 20 دبلوماسيا صينياً آخرين. وقال ممثلو الناتو وقتها إن الحادث يجب اعتباره "خطأ"، وإن هدف الهجوم كان المبنى المجاور الذي فيه مقر إدارة الإمدادات الفيدرالية اليوغوسلافية.
ولطالما استخدمت بكين الحادث كدليل في قضيتها ضد الشراكات الأمنية التي تقودها الولايات المتحدة. وانتقدت الصين حلف شمال الأطلسي وعارضت توسعه، وهي نقطة أوضحها شي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بيان مشترك عام 2022 قبل وقت قصير من بدء الحرب الأوكرانية. كما من المقرر أن يسافر "شي" بعد ذلك إلى المجر للقاء رئيس الوزراء فيكتور أوربان، عدو سياسة الاتحاد الأوروبي، لاسيما ما يتعلق بمساعدة أوكرانيا وكان أول زعيم للاتحاد الأوروبي يوقع عقداً كجزء من مبادرة البنية التحتية الضخمة لمبادرة الحزام والطريق في الصين.
وقالت الحكومة المجرية مؤخراً إن نطاق العلاقة توسّع في السنوات الأخيرة، حيث تبلغ قيمة المشاريع الاستثمارية حالياً أكثر من 16 مليار دولار في البلاد. وتستضيف المجر أكبر مركز توريد لشركة "هواوي" خارج الصين، على الرغم من الضغوط الأميركية لحظر شركة التكنولوجيا العملاقة.
كما احتضن أوربان صناعة السيارات الصينية. وتقوم شركة "Contemporary Amperex Technology" ومقرها الصين ببناء مصنع لبطاريات السيارات الكهربائية بقيمة 7.8 مليارات دولار في المجر. وتقوم شركة "BYD" لصناعة السيارات الكهربائية الأكثر مبيعاً في الصين، ببناء مصنع في مدينة زيجيد في جنوب المجر. ويقول مراقبون إن مصنعاً آخر قد يكون مطروحاً على الطاولة خلال زيارة شي.
وقال تاماس ماتورا، زميل بارز في مركز تحليل السياسات الأوروبية والأستاذ المشارك في جامعة كورفينوس في بودابست، إن أوربان يضع رهاناته على الصين، مضيفا وفق الصحيفة الأميركية: "لقد كان من الواضح جداً أن الحكومة تريد تحويل البلاد إلى مركز لوجستي".
مراوغة فرنسية رغم التشدد في العلن
ورغم التشدد الحالي الذي يبديه الرئيس الفرنسي إلا أنه يتمتع بتاريخ من المراوغة. وخلال زيارته للصين العام الماضي، أثار ماكرون حفيظة الحلفاء عندما قال إن على أوروبا أن تتراجع عن التوترات بين الصين وتايوان، وهو مبدأ يناسب هدف شي المتمثل في دق إسفين بين واشنطن وأوروبا. وقال مارك جوليان، كبير محللي الشؤون الصينية في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية: "هذا شيء يمكن للصين أن تحاول استخدامه لصالحها".
ودعا الرئيس الصيني في باريس، أمس، إلى تعزيز "التعاون الاستراتيجي" بين بلده والاتحاد الأوروبي والحفاظ على "شراكتهما". وقال "كقوتين عالميتين رئيسيتين، على الصين والاتحاد الأوروبي أن يبقيا شريكين ويواصلا الحوار والتعاون ويعمّقا التواصل الاستراتيجي ويعززا الثقة الاستراتيجية المتبادلة".
الصين ترغب في حل الخلافات مع أوروبا عبر الحوار
وكتبت صحيفة الشعب اليومية، الصحيفة الرئيسية للحزب الشيوعي الصيني، أن "التعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين والاتحاد الأوروبي هائل، ولا مفر من حدوث عراقيل". وأضافت أن "الصين ترغب في تعزيز التواصل والتنسيق مع الاتحاد الأوروبي وتكثيف التعاون وحل الخلافات من خلال الحوار".
والاتحاد الأوروبي هو ثاني أكبر شريك تجاري للصين. واعترضت بروكسل مراراً على تزايد الفائض التجاري في السلع الصينية، والذي بلغ 291 مليار يورو (314.3 مليار دولار) في عام 2023، بانخفاض عن الرقم القياسي الذي بلغ حوالي 400 مليار يورو في العام السابق، ولكن أعلى بكثير من مستويات العقد السابق. وقال الرئيس الفرنسي في مقابلة مع صحيفة لا تريبيون الفرنسية، الأحد، قبيل وصول شي، إننا "نرغب في تحقيق منفعة متبادلة في العلاقات التجارية، ومراعاة العوامل التي تؤثر في أمننا الاقتصادي".
ويعد توقيت كل محطة في هذه الزيارة رمزيا، إذ يصادف عام 2024 الذكرى الستين للعلاقات الدبلوماسية بين الصين وفرنسا، فضلا عن الذكرى الخامسة والسبعين لعلاقات بكين الدبلوماسية مع المجر. ومع ذلك، فإن رسالة التضامن والتعاون التي ترسلها بكين قد لا تلقى صدى لدى الزعماء الأوروبيين الذين أصبحوا قلقين بشكل متزايد إزاء الزحف التجاري الصيني، حيث يغمر المصنعون الصينيون أوروبا بالسيارات الكهربائية والألواح الشمسية وغيرها من السلع الناجمة عن تخمة التصنيع الهائلة وتأخر الاستهلاك في الداخل. وكان الاقتصاد الصيني بطيئاً في الخروج من وباء كورونا، حيث أدى انخفاض أسعار العقارات وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب والانكماش إلى إثارة المخاوف من أن البلاد ستسعى إلى التصدير للخروج من الركود.