من أين يؤكل الدب الروسي؟

23 فبراير 2022
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوقع قرار الإعتراف بجمهوريتي شرق أوكرانيا (Getty)
+ الخط -

في خطوة ربما تقوض أي جهود دبلوماسية لوقف اشتعال الأزمة على الحدود الأوكرانية، أعلنت روسيا اعترافها باستقلال منطقتين في شرق أوكرانيا، وقرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إرسال قواته "لحفظ السلام" فيهما، لتكون الكرة الآن (وقت كتابة هذه السطور مساء الاثنين بتوقيت واشنطن) في ملعب الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين لاتخاذ الخطوة القادمة، والتي ستشمل أغلب الظن بداية لفرض عقوبات اقتصادية على الحكومة الروسية والبنوك والشركات التابعة لها.

وكما هو الحال في مباريات الشطرنج بين المحترفين، يدرك كل طرف تحركات خصمه لثلاث أو أربع نقلات قادمة، ويعمل مقدماً على الحد من تأثيرها السلبي عليه.

وبعد العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا في أعقاب أزمة شبه جزيرة القرم في عام 2014، عملت روسيا على تحصين نفسها ضد أي عقوبات قادمة، وهو أمر شديد الصعوبة في عالم تضع أساساته الاقتصادية والمالية أميركا والدول الغربية، وتسيطر على محركاته الأساسية في أغلب التعاملات.

وبعد الأضرار الكبيرة التي سببتها العقوبات السابقة، نوعت روسيا احتياطي النقد الأجنبي لديها بعيداً عن العملة الأميركية، لتجنب الاضطرار إلى استثمارها في أدوات الدين أو البنوك الأميركية.

وفي يونيو / حزيران الماضي، أكملت روسيا تخلصها من كل الأصول الدولارية في صندوقها السيادي، الذي كانت قيمته وقتها، وقبل الارتفاعات الأخيرة في سعر النفط المصدر الأساسي للدخل في البلاد، ما يقرب من 186 مليار دولار.

وتشير أحدث التقارير إلى أن 90% من تلك الأصول تتكون الآن من اليورو (40%) واليوان الصيني (30%) والذهب (20%)، الأمر الذي يجعلها إلى حد كبير بعيدة عن السيطرة الأميركية، في وقتٍ لا تجرؤ فيه السلطات الأوروبية على تجميد أي أصول مالية روسية لديها.

ورغبةً منها في الابتعاد التام عن النظام المالي العالمي الذي وضعته أميركا وحلفاؤها، وجعلوا لأنفسهم ما يشبه الوصاية على مفاصله، لم توقف روسيا جهودها خلال الفترة الماضية لإطلاق عملتها الرقمية، وأعلنها محافظ البنك المركزي الروسي، إيلفيرا نابيولينا، صراحة قبل أشهرٍ قليلة أنهم "يرون مستقبل نظامهم المالي مع العملات الرقمية".

والشهر الماضي، اقتربت احتياطيات النقد الأجنبي الروسي من 630 مليار دولار، واختار البنك المركزي أن يكون أكثر من ربعها ذهباً، وانخفضت حصة الدولار فيه إلى نحو 20% بعد أن كانت تتجاوز 40% في العام 2018، ووضع البنك أغلبها في سندات طويلة الأجل يمكن بيعها في السوق الثانوية لأي طرف والحصول على المقابل خارج سيطرة الأميركيين، باستخدام بعض الأساليب غير المألوفة في حركة بيع وشراء السندات المعتادة.

أما عن التجارة، فقد حولت روسيا خلال السنوات الأخيرة النصيب الأكبر من تجارتها باتجاه الصين، ومدت خط أنابيب لتصدير الغاز الطبيعي لها، فارتفعت قيمة تعاملات البلدين التجارية لأكثر من مائة مليار دولار في العام.

وقادت روسيا في 2019 تحالفاً تجارياً يشمل دولاً من آسيا وأوروبا نحو تعزيز التجارة البينية بينها، على أن تتم تسوية ما لا يقل عن 70% من قيمة تلك التعاملات بالعملات المحلية.

وخلال السنوات الأخيرة، انخفض المكون الدولاري من عائد الصادرات الروسية من السلع والخدمات إلى 56%، بعد أن كان يتجاوز 80% في 2013. ومع اقتراب سعر برميل النفط من مائة دولار، ستعمل الدول الأوروبية على الأرجح على تجنب وقف وارداتها من روسيا، خاصة واردات النفط والغاز التي تحتل المرتبة الأولى في الأهمية بالنسبة للروس، وللأوروبيين ربما بصورة أكبر.

وحظرت الحكومة الروسية منذ عام 2014 واردات الغذاء من الدول الغربية، وعلى رأسها الخضروات والفواكه واللحوم ومنتجات الألبان، بما فيها الجبن الفرنسية والهولندية، قبل أن يمتد الحظر ليشمل قطاعات أخرى، مثل الأدوية ومنتجات التكنولوجيا، وهو ما أعطى دفعة كبيرة لإحداث طفرة في تلك الصناعات على المستوى المحلي، وساهم في إيجاد منتجات تحل محل الواردات، وتعطي دفعة إيجابية لاقتصاد البلاد والحساب الجاري لديها.

وعمدت موسكو خلال الفترة الماضية، مدعومة بارتفاع حصيلة صادرات الطاقة، إلى تقليل الاعتماد على حصة الأجانب في الدين العام، الذي لا يتجاوز 18% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنسبة تتجاوز 130% في الولايات المتحدة، و97% في بريطانيا، 115% في فرنسا، ومتوسط يقترب من 100% في منطقة اليورو، وكأن الثعلب الروسي كان يستعد لهذه اللحظة منذ عام 2014.

لكن بقي قطاع واحد لم تتمكن موسكو من تحصينه ضد العقوبات الأميركية المتوقعة، وهو قطاع التكنولوجيا، حيث مازالت الصناعات التكنولوجية الروسية تعتمد على الشركات الأميركية، وشركات حلفاء أميركا في أوروبا وتايوان وكوريا الجنوبية، بصورة كبيرة، وبصفة خاصة في صناعة الرقائق، أو ما يعرف باسم أشباه الموصلات.

ولا يعني ذلك أنه لا توجد لتلك المنتجات مصانع في روسيا، إلا أنها تعد قديمة أو متأخرة بعض الوقت، وتعتمد في إنتاجها أيضاً على المنتجات والابتكارات التي تتيحها المصانع الغربية.

ويحظى قطاع التكنولوجيا الأميركي وصادراته لروسيا بعناية خاصة من الرئيس الأميركي جوزيف بايدن وإدارته، كونه يحتل المرتبة الأولى في الأسلحة التي يمكن بها لواشنطن أن تعاقب الروس حال اقتحامهم أوكرانيا.وتستطيع الولايات المتحدة وضع ضوابط لتصدير الإلكترونيات الدقيقة، إن أرادت، من خلال أداة "قاعدة المنتج الأجنبي المباشر"، والتي استخدمتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لمعاقبة شركة هواوي الصينية. وقالت الشركات الأوروبية إنها ستفعل ما تفعله الشركات الأميركية وتمتنع عن فعل ما منعت عنه تلك الشركات، حال فرض الحظر.

درسان مهمان يجب الالتفات لهما من المعركة التي ظهرت بوادرها، الدرس الأول هو ضرورة تحصين اقتصاد البلاد، بكل تفريعاته، بما يغنيه عن العالم الخارجي، والدرس الثاني هو أن حروب العصر سيكون عمادها الحرب الإلكترونية، وهو ما دفع أقوى الجيوش لتخصيص مليارات الدولارات، وآلاف الجنود، لتنمية أنشطة مثل الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، وبالتأكيد صناعة أشباه الموصلات. فهل نحن منتبهون؟

المساهمون