استمع إلى الملخص
- أعلنت الإدارة الجديدة عن خطط لزيادة الأجور بنسبة تصل إلى 400% لتحسين الأوضاع المعيشية، لكن هذه الخطط تثير مخاوف من التضخم وتآكل القدرة الشرائية.
- توجد فرص لإعادة بناء الاقتصاد عبر الدعم الدولي ومشاريع إعادة الإعمار، مع التركيز على جذب الاستثمارات وعودة الكفاءات السورية من الخارج.
السوريون أسعد شعوب العالم، هذا ما كتبه الكثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي، مع استعداد سورية للدخول في مرحلة تاريخية جديدة بلا آل الأسد. العيون تشع فرحاً بانتهاء حرب النظام على شعبه، بعدما قتل الآلاف وعذّب الآلاف وشرّد الآلاف خارج أراضيهم. إلا أن العيون ذاتها تحمل الكثير من التعب.
إذ إن الأسد وعائلته نهبوا الاقتصاد السوري حد الإفلاس، وأفقروا من تبقى من مواطنين في سورية حدّ الجوع والذل. ودمّر النظام بالقصف حيناً وبالفساد والاحتكار أحياناً مقدّرات الاقتصاد السوري ومؤسساته، إلى أن وصلت الخسائر، وفق المنظمات الدولية، إلى ما يزيد على تريليون دولار أميركي.
وفي ظل هذا الواقع الاقتصادي المأساوي، أعلن القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع عن دراسة زيادة الأجور بنسبة 400% خلال الفترة المقبلة، وسبقه رئيس الحكومة السورية المؤقتة محمد البشير بالحديث عن خطة لزيادة رواتب الموظفين بنسبة 300% خلال الأشهر المقبلة، بهدف تحسين الأوضاع المعيشية. هذا الإعلان يثير العديد من التساؤلات وكذا المخاوف من مغامرة تلقى استحساناً لدى المواطنين لفترة زمنية بسيطة، وقد تنقلب ضدهم بسرعة.
إذ إن زيادة الرواتب بهذه النسبة الكبيرة دفعة واحدة وفي ظل أزمة اقتصادية تُعتبر الأعنف في التاريخ الحديث، سيؤدي إلى ارتفاع تلقائي في نسب التضخم. فزيادة الرواتب دون استباقها بتعزيز الإنتاجية المحلية يعني ارتفاع نفقات الأسر على السلع والخدمات المحدودة في السوق، ما يؤدي إلى ارتفاع كبير وسريع في الأسعار، وبالتالي فإن هذه الزيادة لن تنعكس تحسناً في الظروف المعيشية، لا بل إن صعود أسعار المواد الأساسية من غذاء ووقود وغيرها سينعكس تآكلاً في القدرة الشرائية للأفراد.
ولا يحتمل السوريون زيادة إضافية في التضخم، حيث يعيش غالبية السوريين اليوم تحت خط الفقر بينما يعاني أكثر من 12 مليوناً منهم من انعدام الأمن الغذائي، وفق الأمم المتحدة. من المتوقع أن يحتاج أكثر من 16.7 مليون مواطن سوري إلى المساعدة في عام 2024، وهو أكبر عدد على الإطلاق منذ بداية الأزمة في عام 2011.
زيادة الرواتب بهذه النسبة الكبيرة دفعة واحدة وفي ظل أزمة اقتصادية تُعتبر الأعنف في التاريخ الحديث، سيؤدي إلى ارتفاع تلقائي في نسب التضخم
وفي مقابل هذه المأساة، فإن معدل التضخم بين عامي 2011 و2021 بلغ، وفقاً للكتاب السنوي للمكتب المركزي للإحصاء، 3852%، مما يعني أن الأسعار تضاعفت بما يقرب من 40 ضعفاً. فيما بحسب خبراء الاقتصاد الموالين للرئيس الهارب من شعبه، فإن معدل التضخم بين عامي 2011 و2023 قد بلغ 16137%، أي إن الأسعار ازدادت بما يتجاوز 161 مرة بين العامين المذكورين.
وقد زاد الرئيس الهارب الرواتب حوالي 13 مرة منذ 2011 حتى العام الحالي، إلا أن هذه الزيادات لم تجد نفعاً، كونها لم تقترن بأي خطة إنتاجية أو اقتصادية شاملة، لا بل تزامنت غالباً مع زيادة الأسعار ورفع الدعم عن المواد الأساسية. وبعد الزيادة الأخيرة، لم يتعدّ الحد الأدنى للأجور 280 ألف ليرة (19 دولاراً)، فيما يتراوح متوسط الرواتب في القطاع العام حالياً بين 375 و400 ألف ليرة (بين 25 و27 دولاراً).
أما تكاليف المعيشة لعائلة مكونة من خمسة أفراد في مناطق سيطرة النظام السوري فتبلغ أكثر من 12 مليون ليرة، مع بداية العام 2024، وفق دراسة لجريدة "قاسيون". ما يعني أن زيادة 400% على الراتب دفعة واحدة ليصبح مليوني ليرة، لن توفر الحاجيات الأساسية للسوريين، وإنما ذلك يتحقق خلال زيادات تدريجية بالتزامن مع دفع الاقتصاد سريعاً نحو النشاط والنمو.
من جهة أخرى، تواجه سورية مشكلة كبيرة حالياً في الانتظام المالي، حيث عبث النظام السابق إلى حد التدمير بمقدرات الدولة، فيما تغيب المؤشرات الموثوقة نهائياً لتتبع مسار الاقتصاد خلال السنوات الماضية. وقد كلفت الزيادة الأخيرة على الأجور بنسبة 50% حوالي 2.5 تريليون ليرة سورية، وفق التصريحات الرسمية.
انهار الناتج المحلي الإجمالي للبلاد من 60.4 مليار دولار في 2010 إلى أقل من 9 مليارات دولار العام الماضي، وفقاً لتقديرات البنك الدولي.
وبالتالي فإن زيادة بنسبة 400% دفعة واحدة ستحتاج إلى الموارد الكافية لتمويل هذه الزيادة من خلال الإيرادات المحلية أو الاحتياطيات المالية، وإلا سيزيد العجز الضخم أساساً في الموازنة. وفي بلد منهوب من قبل الأسد وعائلته، فإن زيادة الأعباء تُعتبر مغامرة. فقد انهار الناتج المحلي الإجمالي للبلاد من 60.4 مليار دولار في 2010 إلى أقل من 9 مليارات دولار العام الماضي، وفقاً لتقديرات البنك الدولي.
كما أن إجمالي الاحتياطيات الأجنبية في سورية هبط من 18.5 مليار دولار في 2010 إلى 700 مليون دولار بحلول نهاية عام 2015، فيما تقول التقديرات حالياً إن الاحتياطات شبه جافة، بعدما استخدم الأسد أموال المواطنين لتمويل حربه ضدهم، وبعدما نهب مليارات الدولارات من الاقتصاد وهرّبها مع عائلته إلى الخارج.
في المقابل، لا يمكن الحديث حالياً عن قطاعات إنتاجية أو صادرات يمكن أن ترفد الموازنة بالأموال اللازمة لزيادة الرواتب بنسبة كبيرة خلال أشهر قليلة، بل على العكس، فبسبب ضعف الإنتاج المحلي، فإن تحفيز الاستهلاك سيزيد من حجم الاستيراد، ما يعني تصاعد الخلل في العجز التجاري، الذي ينعكس ارتفاعاً في الطلب على العملات الأجنبية وبالتالي تعميق انهيار الليرة السورية التي خسرت حوالي 100% من قيمتها منذ 2011، فتعود الأزمات إلى حلقتها الأولى.
وإن كان التعويل على استعادة الأموال المنهوبة غير واقعي خلال الأشهر المقبلة بسبب طول الفترات التي تتخذها مثل هذه العمليات المعقدة، إلا أن المخرج قد يكون في مكان آخر، حيث من المتوقع أن تبدأ الدول المانحة في دعم الاقتصاد السوري خلال الفترة المقبلة لإعادة إعمار بلد يحتاج سنوات لبناء ما تم هدمه. وقد تكون هذه المنح مصدراً تمويلياً قد يساعد على زيادة الأجور، على أن يكون ذلك بموازاة تطبيق خطة نهوض اقتصادي صلبة، توقف الفساد المستحكم بالاقتصاد وتخلق فرص العمل وتعزز الاستثمارات وقطاعات الإنتاج وتزيد من المداخيل الثابتة للأسر.
يبقى أن ما صرّح به الشرع من نقاط أخرى قد يكون لها مفاعيل اقتصادية إيجابية. إذ إن الإلغاء المحتمل للتجنيد الإجباري قد يحفّز ملايين الشباب على العودة إلى بلدهم من دول اكتسبوا منها العلم والخبرات، وبعضهم أسس شركات ناجحة قد تنتقل بقيمتها المضافة إلى سورية. كما أن تسليم الفصائل سلاحها إلى الدولة يعيد الثقة الاستثمارية في بلد سيكون منجماً لمشاريع إعادة الإعمار، ومساحة خاماً لإطلاق الاستثمارات.
فيما بناء المنازل المهدّمة وإعادة المهجّرين حتى آخر خيمة، سيكون محركاً اقتصادياً واجتماعياً يبنى عليه لانطلاقة جديدة لسورية، على أمل استعادة مليارات الدولارات المنهوبة خلال الفترة المقبلة، وزجّ الأسد وأسرته في السجن بدلاً من حياة البذخ التي يعيشها في روسيا، من ثروة كوّنها بأموال السوريين ودمهم.