قبل أكثر من عامين حكى لي شخص عربي مقيم في إسطنبول كيف أنه فقد نصف ثروته التي كان يمتلكها، عندما راح يستجيب لنداءات السلطات التركية بتحويل مدخراته الدولارية إلى الليرة، لمواجهة الحرب الشرسة التي شنتها أطراف خارجية على العملة التركية، خاصة عقب فرض دونالد ترامب عقوبات اقتصادية على أنقرة في صيف عام 2018.
وسألني عن رأيه فيما فعل، وكيف يمكنه الحد من الخسائر التي لحقت به، فقلت له إن ما فعله كان خطأ من الناحية الاستثمارية، فالدفاع عن العملات الوطنية هو مهمة الحكومات والدول لا دور الأفراد، باعتبار أن تعاملات هؤلاء تظل قليلة ومحدودة، مقارنة بمليارات الدولارات التي تتعامل بها الحكومات والمستوردون والمستثمرون والمؤسسات المالية.
كما أنه ليس مطلوبا من الأفراد تعريض أنفسهم للخسارة، مطلوب منهم فقط عدم التكالب على شراء الدولار وتخزين العملات الأجنبية وقت تعرض عملاتهم الوطنية لأزمات ومخاطر، وكذا عدم تحويل مدخراتهم المحلية إلى نقد أجنبي، وبالتالي تغذية ظاهرة "الدولرة"، لأن مثل هذه السلوكيات تضر ضررا بالغا بالعملات المحلية، كما حدث في مصر قبيل تعويم الجنيه في نوفمبر 2016.
تذكرت هذا الموقف عقب قراءة تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي دعا فيها يوم الاثنين الماضي مواطني بلاده إلى تحويل مدخراتهم إلى الليرة، مؤكداً أنه يعمل من أجل خفض أسعار الفائدة إلى مستويات مناسبة للأسواق.
دعوة أردوغان الأتراك إلى التمسك بعملتهم وتحويل مدخراتهم من الدولار واليورو والذهب إلى الليرة ومواجهة الحروب الاقتصادية التي تواجهها بلادهم ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فقد أطلقها مرات عدة، خاصة عقب المضاربة على الليرة بعد الانقلاب العسكري الفاشل منتصف 2016 وإبان الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وعقب فرض العقوبات الأميركية على أنقرة في صيف 2018.
وتتكرر الدعوة عقب تعرض العملة التركية لعمليات مضاربات محمومة وطلب إضافي يدفعان بها إلى التراجع المتواصل أمام الدولار، وهو ما حدث خلال السنوات الماضية، حيث تعرضت الليرة لتراجعات مستمرة أفقدتها نحو 25% من قيمتها خلال العام الجاري فقط.
أردوغان يراهن على وعي الأتراك في حماية عملة بلادهم وعدم التكالب على شراء الدولار وتخزينه، وبالتالي الحد من ظاهرة الدولرة داخل المجتمع، والتي تضيف ضغوطا شديدة على الليرة.
لكن أردوغان وحكومته يدركان جيدا أن الاتراك لا يضاربون بقوة على العملة، وأن مشكلة الليرة لا تكمن في الطلب القوي من قبل المدخرين، وإنما تكمن في أطراف خارجية تتلاعب بها، إضافة إلى عوامل أخرى ما بين اقتصادية وسياسية وصحية، فتركيا تتعرض حاليا لأنواع عدة من المخاطر، أخطرها فيروس كورونا وما تركه من تأثيرات شديدة على موارد البلاد من النقد الأجنبي، خاصة من قطاع السياحة.
أيضا فإن تهديد دول غربية من وقت لآخر بفرض عقوبات على أنقرة يلعب دورا في تذبذب الليرة.
وبالتالي فإن عودة الاستقرار إلى سعر الليرة لا تكمن فقط في إقالة اثنين من محافظي البنك المركزي واستقالة وزير المالية كما حدث مؤخرا، لكن تكمن في عودة تدفق موارد النقد الأجنبي، خاصة من قطاعات حيوية كالصادرات البالغة قيمتها نحو 180 مليار دولار في العام 2019، وكذا تطبيق سياسة نقدية مرنة يتم فيها رفع سعر الفائدة وتحويل الليرة إلى أداة جاذبة للاستثمار.
كما أن تركيا بحاجة إلى تبريد بعض الملفات الخارجية إذا ما أرادت عودة الاستقرار لعملتها.