يبدو أن هناك علاقة عداء متجذرة بين الأنظمة الاستبدادية والبحث العلمي بصفة عامة، ويتجلى هذا العداء ليس في تدني مخصصات البحث العلمي إلى حدها الأدنى في معظم بلداننا العربية مقارنة بدول العالم المختلفة فحسب، بل يمتد إلى تدنٍ مخزٍ ومهين لرواتب وأجور أساتذة الجامعات وأساتذة مراكز البحوث في مختلف التخصصات، بالإضافة إلى تقادم الأدوات والمعدات البحثية المتوافرة لدى هذه المراكز، وهو ما أدى إلى هجرة العقول المصرية ونبوغها بعيدا عن أرض الوطن، وضياع فرص الاستفادة من منتجاتها البحثية.
وفي الوقت التي تعاني فيه مصر من ندرة الموارد الزراعية الطبيعية وبصفة خاصة المياه والأراضي الخصبة، وفي ظل السياسات الحكومية التي دفعت المواطنين إلى الجور على الأراضي الزراعية بعد تصميم الدولة على الاتجار بالأراضي وتقديمها لكبار المستثمرين على حساب المواطن البسيط الذي لم يجد ملجأً في ظل زيادة عدد أبنائه سوى البناء على مصدر رزقه، ورغم العجز الكبير في نسب الاكتفاء الذاتي المصري من كافة السلع الزراعية فإنه، وبلا مقدمات، بدأت مصر محرقة مراكز البحوث الزراعية الكبرى.
الاستيلاء على الأراضي لبناء عقارات
تلجأ الدول أثناء الأزمات إلى علمائها في المراكز البحثية لدعمها بالأفكار التي تمكنها من مواجهة المشكلات بأقل التكاليف الممكنة، وتواجه مصر مجموعة من المشاكل، منها المزمنة التي تتمثل بضعف الإنتاج الزراعي وعدم قدرته على تلبية احتياجات السكان المتزايدة، الأمر الذي يتسبب، في اضطراد، بتراجع نسب الاكتفاء الذاتي والاعتماد على الاستيراد من الخارج، وبالتالي المزيد من عجز الميزان التجاري.
ومنها المشكلات الاعتيادية الأخرى مثل مشكلات الفاقد الزراعي الذي يتعدى النسب العالمية، ومشاكل الري والبذور وغيرها، ومؤخراً مشكلة السد الإثيوبي وأزمة المياه المتوقعة في حال الملء الثاني للسد، والذي بدأ فعلياً كما أشارت بعض التقارير، وكلها أمور كانت تحتاج إلى وقفة حكومية جادة خلف مراكز البحوث الزراعية للعمل على تقليل الأضرار المترتبة على تلك المشكلات، علاوة على دورها الطبيعي في تطوير الإنتاج عبر مراحله المختلفة.
ولكن كالعادة كانت الحكومة المصرية منفصلة تماماً عن احتياجات المراكز البحثية، بل بدأت محرقة لكبرى أذرعها الممتدة داخل الجغرافية المصرية، حتى طاول الاستيلاء أراضي خمسة مراكز بحثية لتحويلها إلى مشاريع عقارية.
وكان آخر ذلك هو تسريب أنباء عبر تقارير صحافية بوجود مخطط للاستيلاء على أكثر من 300 فدان هي كامل مساحة أرض محطة الجميزة للبحوث الزراعية في الغربية بهدف تحويلها إلى إسكان اجتماعي، وقبلها فوجئ الباحثون في محطة كفر حمام للبحوث الزراعية بالشرقية بردّ مسؤولي اللجان المساحية، لا يعرف أحد تبعيتها على وجه التحديد، والتي جاءتهم لرفع إحداثيات أرض المحطة البالغ مساحتها 36 فداناً وتأكيدهم أن الهدف من الخطوة هو إنشاء عمارات سكنية.
وتكرر نفس الأمر بمحطة بهتيم للبحوث الزراعية والبالغ مساحتها 380 فداناً، حيث ذهبت لجنة من القوات المسلحة لرفع إحداثيات أرض المحطة، من دون علم أو إخطار مسبق للقائمين عليها، لإدراجها ضمن مشروعات التطوير العقاري لمدينة شبرا الخيمة.
وفي الشهر الماضي أخطر عميد كلية الزراعة بالمنوفية بإخلاء أرض مزرعة الراهب البحثية، والتابعة للكلية والتي تقدر مساحتها بنحو 55 فداناً، وتسليمها للجهة المنوط بها إقامة مشروع الإسكان الاجتماعي في المنطقة، وهي الاستغاثة نفسها التي أطلقها عشرات العاملين في محطة بحوث الدواجن بالإسكندرية، بعد ورود معلومات للمحطة بتحويل أرضها البالغة 12 فداناً إلى منطقة سكنية.
وبالطبع تبرز تلك المحاولات عقلية السلطة التي تمارس السمسرة باعتبارها نشاطا سيادياً يهدف إلى التربح، ولو على حساب المصلحة الوطنية، فقيمة أراضي تلك المراكز لا تقدر بثمن، ودعمها للإنتاج الزراعي المصري كان كبيرا خلال السنوات الماضية، ومع ضعف الإمكانات الشديد، نجحت في المساهمة في رفع إنتاجية فدان القمح من 10 أرادب إلى 18 أردباً، والذرة الشامية من 13 أردباً إلى 25 أردباً، والأرز من 2.4 طن إلى 4.2 أطنان، وقصب السكر من 31.5 طناً للفدان إلى 50 طنا للفدان، وبنجر السكر من 12 طناً إلى 21 طناً.
فجوة الإنتاج الغذائي وارتفاع الأسعار
تظهر بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن مصر تعاني فجوة إنتاجية كبيرة لمعظم السلع الرئيسية، وهو ما اضطر مصر إلى استيراد ما يقارب 60% من احتياجاتها الغذائية في العام الماضي وبقيمة تخطت 15 مليار دولار، وهي القيمة المرشحة للتزايد بعد ارتفاع أسعار الغذاء في العالم في الآونة الأخيرة.
وتفصيلاً فإن فجوة إنتاج الزيوت النباتية في مصر تصل إلى نحو 97% الأمر الذي اضطر الحكومة إلى استيراد نحو 5.7 ملايين طن بقيمة 25 مليارا، بينما قاربت فجوة إنتاج اللحوم الحمراء 50%، وهو ما اضطر مصر إلى استيراد لحوم حمراء مجمدة وحية بنحو 1.8 مليار دولار، بينما اضطرت الفجوة الغذائية مصر إلى استيراد قمح بنحو 2.5 مليار دولار، وفول صويا بما يقارب 1.5 مليار دولار، وذرة بنحو مليارَي دولار خلال 2020.
ومؤخراً حذرت الأمم المتحدة من ارتفاع أسعار الغذاء في العالم بوتيرة هي الأسرع منذ أكثر من 10 أعوام، إذ رصد مؤشر منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، ارتفاع أسعار الأغذية في العالم، من بينها الحبوب، والزيت ومشتقات الحليب، واللحوم والسكر، ويعزى ذلك إلى تجدد الطلب في عدد من البلدان، وتعطل الإنتاج بسبب الجائحة، كما أدى اضطراب الأسواق بسبب تقييد حركة التنقل إلى ارتفاع الأسعار، كما حذر خبراء المنظمة من أن تؤدي كثرة الطلب وقلة الإنتاج إلى ارتفاع التضخم تزامنا مع عودة الحركة الاقتصادية الدولية بعد رفع قيود الإغلاق.
وسرعان ما أعلنت وزارة التموين المصرية رفع أسعار زيت الطعام المدعوم، مبررة ذلك بالارتفاع الملحوظ في أسعار الزيوت العالمية في الفترة من ديسمبر 2020 وحتى مايو 2021، حتى وصلت لنحو 21.5 ألف جنيه للطن الواحد، وبأن هناك تشوها سعريا آخذا في الاتساع بسبب الفجوة بين أسعار الزيت في السوق الحرة والسعر المدعوم، وهو ما دفع الوزارة إلى رفع السعر، نافية النية في رفع أسعار سلع أخرى، وهو النفي الذي يصاحب كل رفع لسعر سلعة سرعان ما تنقضه الحكومة.
حرق ما تبقى من مراكز بحثية
لا يمكن توجيه اللوم للزملاء الباحثين في كليات الزراعة المصرية ولا في المراكز البحثية، فهم يعملون في ظروف بالغة الصعوبة، بداية من مرتباتهم الهزيلة، مرورا بانعدام الميزانيات البحثية علاوة على تقادم اللوجستيات الداعمة، ورغم ذلك حققوا الكثير من المنجزات البحثية التي دعمت الزراعة المصرية خلال الفترة الماضية.
ولكن الذي يدعو للدهشة أن الأمر لم يتوقف عند حدود الإهمال المتعمد، ولكن تخطاه إلى تجاهل التوصيات، وهو ما يفسر الاحتفاء الرسمي بتزايد الصادرات الزراعية من الخضر والفاكهة وهي كثيفة استخدام المياه التي تعاني مصر شحها وندرتها في ظل التدفق الاعتيادي لمياه النيل وقبل ملء السد الإثيوبي، ثم كانت الكوميديا السوداء بمحاولة حرق ما تبقى من هذه المراكز من خلال الاستيلاء على أراضيها بحجة الاستثمار العقاري.
تقف كل دول العالم خلف مراكزها البحثية وباحثيها وتدعمهم بكل ما يحتاجونه لتطوير المنتجات وإحلال المنتج الوطني محل المستورد ورفع نسب الاكتفاء الذاتي، بما يوفر النقد الأجنبي ويحقق الاستقلال للقرارين السياسي والاقتصادي، وتواجه مصر العديد من التحديات الوجودية وعلى رأسها السد الإثيوبي، والوضع لا يحتمل الاستغناء عن أي مركز بحثي، بل يحتاج إلى خطة عاجلة لتمويل هذه المراكز وتفعيل أدوراها، ودفعها نحو مسارها المفقود.