استمع إلى الملخص
- يعاني المتقاعدون من غياب الحوافز والتأمين الصحي، حيث يعتمدون على راتب تقاعدي غير كافٍ، مما يدفع البعض للتسول بعد سنوات من الخدمة.
- تباينت نسب الموظفين المتقاعدين بين المحافظات، ويعاني المتقاعدون الذين لا يتلقون دعماً من أبنائهم أو الميراث، خاصة النساء مثل المعلمة هالة عبود.
أطلق متقاعدو سورية ومجموعة من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي حملة إعلامية تطالب السلطات بإنصاف المتقاعدين، من خلال منحهم تعويضات ومكافآت ورفع سقوف الرواتب بما يحقق العدالة مع باقي موظفي الدولة، مؤكدين أن مطالبهم مهما ارتفعت فلن تحقق لهم أي قدر من الاكتفاء، ولكنها قد تُمسك رمقاً أو تفي بثمن الدواء والعلاج الطبي الذي يحتاج إليه معظم المتقاعدين نسبياً نتيجة تقدمهم في السن.
الناشط المدني حسام العفلق أكد لـ"العربي الجديد" أنه دعم الحملة من دون أن يكون له أي علاقة بها، لكنه يعلم ماذا يصيب المتقاعدين في سورية من خلال جيرانه وأقاربه، وبحكم عمله في الشأن العام، ومنها حملات الإغاثة. وأوضح أن "الحملة على منصات التواصل الاجتماعي لا تصيب هدفها في إيصال الفكرة إلى سلطات النظام السوري والحكومات طالما أن المواطنين آخر ما تفكر فيه سلطة همها الفساد، ولكنها تصنع الفارق مع المجتمع للتكاتف مع المتقاعدين، ودرء خطر الحاجة والجوع عنهم".
ولا يحصل متقاعدو سورية على أي حوافز أو ترفيعات أو تعويضات عمل، ولا حتى على تأمين صحي التي تُسحب منهم عقب الخروج من الوظيفة باستثناء القطاع التعليمي، ويصبح الضمان الوحيد للمتقاعد راتب مقطوع يتراوح بين 125 و450 ألف ليرة، ما يعادل في أحسن الأحوال ثمن دواء وعلاج من دون التحاليل الطبية والتصوير الشعاعي لمدة تقل عن الشهر.
هكذا يعيش متقاعدو سورية
وقال عماد الدين جعفر (48 عاماً)، موظف في أحد البنوك الخاصة، لـ"العربي الجديد": "كان وجه المتسول الذي يجلس أمام درج المصرف التجاري حيث أعمل مألوفاً. وغالباً ما حاولت أن أستحضر بذاكرتي كل الوجوه التي أُحب أو أكره علّني أتذكر أين جمعنا هذا الزمن.. وبعدما تبادلنا النظرات والتحية؛ اقتربت منه وسألته أين التقينا سابقاً، ليصدمني بجواب لم أكن أتوقعه في حياتي، قائلاً إنه كان أستاذ مادة التاريخ بمدرسة العروبة قبل 30 سنة".
وتابع: "بعدما استدركت الموقف، وقبل أن أقول كلمات ليس لها معنى، تابع معلمي: عمري تجاوز 70 عاماً ومرتبي يقل عن 350 ألف ليرة، لا يكفي ثمناً لأدوية القلب والضغط والروماتيزم لي ولزوجتي، فماذا أستطيع أن أعمل وأنا بهذا العمر وهذه الصحة المتراجعة؟".
ويضيف: "مدرس التاريخ هذا علّم بناته الثلاث حتى تخرجن من الجامعة وساهم بنجاح آلاف الطلاب عندما كان للمدرس قيمة اجتماعية، وكان يلقى الاحترام، وقبل أن يلجأ إلى الأعمال الحرة التي لا تُغني ولا تُشبع، ولا تناسب من قضى جلّ شبابه وقوفاً أمام الطلاب".
هذا أحد المتقاعدين من قطاع التعليم ومثله كثيرون ممن عملوا لسنوات طويلة بمهن مختلفة، كسائق تاكسي عمومي أو حارس ليلي أو ناطور لورش البناء والمزارع، وفي أعمال البناء والزراعة وخدمة المطاعم وبيع أوراق اليانصيب، وصولاً إلى أبواب الجمعيات الخيرية ودور العبادة، وحتى التسول في الشوارع.
وقال فاضل الشامي (65 عاماً) خريّج تجارة واقتصاد، من سكان ريف دمشق، لـ"العربي الجديد": "عندما كُنت موظفاً في مؤسسة التجزئة قبل 15 عاماً، كان راتبي الشهري مع التعويضات والحوافز يفي بعيش الأسرة وتعليم الأبناء وحتى دفع أقساط شراء الشقة السكنية أو أجور السكن. وكان من السهل أن نجد عملاً رديفاً في القطاع الخاص نستطيع من خلاله تحسين الوضع المعيشي، وكانت الوظيفة هدفاً وحلماً لكل طالب جامعي لما تحققه من استقرار نوعي وأمان وضمان للمستقبل التقاعدي، حيث كان القطاع العام يتميز في الراتب التقاعدي والتأمين من القطاع الخاص، ولهذا لم يفكر جيلنا في تعلم الحرف والأعمال الحرة أو في السفر والهجرة إلا فيما ندر".
أما اليوم، تابع الشامي، فـ"حلم التقاعد أصبح وهماً، والراتب الشهري مُذلاً، ويشعر كل مُتقاعد من المؤسسات والنقابات العامة بالخجل عندما يقف بطوابير الصرافات الآلية، أو عندما يسأله أحدهم عن مرتبه الشهري".
وينطبق هذا الوضع على معظم المتقاعدين من مؤسسات الدولة، فغالباً ما كان يدفع الأهالي بأبنائهم نحو العلم والوظيفة لما كان لها من قيمة وتحقق الاستقرار وضمان للمستقبل وللعجز وسن الشيخوخة، وبالرغم من هذا الحال ما زالت نسبة كبيرة من خريجي المعاهد والجامعات وحتى من حملة الشهادات الثانوية بكل أقسامها يسعون للحصول على وظيفة في مؤسسات الدولة.
مصادر دخل أخرى
تقول رهام، موظفة جديدة في إحدى مؤسسات المياه السورية طلبت عدم الكشف عن اسمها الكامل، لـ"العربي الجديد": "أجزم أن معظم الموظفين ومنذ سنوات لا يعتمدون على الراتب الشهري أساساً للعيش، بل يلجؤون إلى مصادر أخرى نعرفها جميعاً، وهذه المصادر التي تُسمى "الرشوة أو الاختلاس أو السرقة" أصبحت شبه مشرّعة وتحميها جهات الرقابة والتفتيش وغيرها، لأنها شريكة وتعمل بالطريقة نفسها".
وغالباً ما يسعى الموظفون القدامى لتأجيل طلبات التسريح والإحالة على المعاش ما داموا مستفيدين من الاستمرار في العمل، حتى إن البعض منهم يخشى أن يُفرض عليه التسريح ويُحال على المعاش.
وكانت المحافظات السورية قد تباينت فيما بينها بالعدد النسبي للموظفين والساعين للعمل الوظيفي بحسب فرص العيش والإنتاج الذي فرضته البيئة الإجتماعية والخدمية والطبيعية، فارتفعت نسب الموظفين المدنيين والعسكريين في محافظات مثل اللاذقية وطرطوس وحمص والسويداء، وانخفضت نسبياً في محافظات دمشق ودير الزور وإدلب وحلب وريفها ودرعا.
ويذكر السوريون من خريجي المعاهد والجامعات، خاصة قطاعات التعليم والصحة، شروط العمل أو الخدمة خارج محافظاتهم لمدة لاتقل عن عامين، فيما كان يُسمى المحافظات والأرياف النائية.
وفي هذا الشأن، قال الممرض المتقاعد لورنس الهنو (61 عاماً)، لـ"العربي الجديد": "كانت الدولة تفرض على خريجي القطاع الصحي والتعليمي وعلى جميع المتعاقدين معها من طلاب الهندسة والطب وغيرها، الخدمة في المناطق النائية والأرياف لمدة عامين، قبل أن يُسمح للموظف أو المتعاقد العودة إلى محافظته، ولهذا كنّا نعاني مصاريف السفر والإقامة، ونلجأ أحياناً إلى مساعدة أهالينا إلى جانب الراتب الشهري، ولكن كُنّا نلقى التقدير والاحترام من أهالي المناطق التي نُعين بها، ونشعر بالتميز والقيمة للوظيفة والشهادة التي نملك ونعمل بها".
وتابع: "أما اليوم، وبعد خدمة 41 عاماً من دون توقف، فنحن مدعاة للشفقة والحسنة وحتى للسخرية، وما زال معظمنا يعمل بالقطاع الخاص وبالأعمال الحرة مقابل أجور رمزية تعادل الاختصاص والجهد القادر على تقديمه، في حين لجأ الكثير من المتقاعدين إلى تعلم مهن أخرى، مثل أعمال البناء وقيادة السيارة والحلاقة وغيرها من أجل أن يستمر في العيش من دون أن يمد يده ويطلب المساعدة".
هذا الوضع السيئ لعموم المتقاعدين الذين لم يسعفهم المهاجرون من أبنائهم أو الميراث من آبائهم، كان وقعه أكثر سوءاً على النساء المتقاعدات من العمل، خاصة أنهن يتقاعدن في سن مبكرة نسبياً نتيجة ازدياد الأعباء المنزلية عليهن، وكذلك انعدام الفرص في السن التقاعدية نسبة للمتقاعدين من الرجال.
وفي هذا توضح المعلمة المتقاعدة هالة عبود لـ"العربي الجديد" أنها تمتلك منزلاً صغيراً هو ثمار ما جنته وزوجها بعد خدمة 32 عاماً في التعليم، وتتسلّم 320 ألف ليرة مرتبها الشهري، حيث تصرفه منذ اليوم الأول على أساسيات المونة المنزلية كالزيت والرز والبرغل وبعض الخضار، بعد أن تقتطع منه قيمة فواتير الهاتف والكهرباء والماء. وتلجأ شهرياً إلى الجمعيات الخيرية من أجل تأمين أدوية الضغط والسكر، في حين تصلها بعض المساعدات وأحياناً الأطعمة من أبنائها رغم ظروفهم السيئة التي يعيشون. وأردفت: "أكثر ما يحزنني عندما تصلني بعض المساعدات وأحياناً بعض الأطعمة من طلابي الذين يعيشون بالقرب مني مع أسرهم. لقد ذلتنا تلك الشهادة التي قضينا عمرنا نكافح لأجلها وذلنا هذا الوطن الذي قدمنا له كل شبابنا".