ما وراء السخاء الأميركي الأخير للهند

18 سبتمبر 2023
شراكة بين الولايات المتحدة والهند على عدّة جبهات (فرانس برس)
+ الخط -

استضافت الهند القمّة السنوية لمجموعة العشرين في نيودلهي يومي 9 و10 سبتمبر/ أيلول الجاري، وخلال الاجتماع الذي يضم دول أقوى 20 اقتصادا في العالم، حرص الرئيس الأميركي بايدن على الحضور وإنجاح هذه القمّة من أجل تعزيز الشراكة الأميركية الهندية، لتلبية الأولويات المشتركة كالتصدِّي للطموحات الصينية، متناسياً انتهاكات حكومة مودي لحقوق الإنسان.

ولم تخرج الهند خالية الوفاض من هذه القمّة، فقد أعلنت شركة Microchip Technology الأميركية عن استثمار نحو 300 مليون دولار من أجل توسيع وجودها في مجال البحث والتطوير في الهند، وأعلنت شركة Advanced Micro Device الأميركية عن استثمار 400 مليون دولار في الهند على مدى السنوات الخمس المقبلة، لتوسيع عمليات البحث والتطوير والهندسة في الهند.

كما أبرم اتِّحاد الجامعات الأميركية (AAU) مع الجامعات الهندية مُمثَّلة بمجلس المعاهد الهندية للتكنولوجيا (IIT Council) اتفاقية لإنشاء المعهد الهندي الأميركي للتحدِّيات العالمية، وذلك باستثمار أوَّلي لا يقلّ عن 10 ملايين دولار، ورحَّب الرئيس بايدن بطلب الهند شراء 31 طائرة بدون طيّار من طراز General Atomics MQ-9B من الولايات المتَّحدة لتعزيز قدراتها الدفاعية على حدودها.

هناك عدّة مبرِّرات تقف وراء سخاء الولايات المتّحدة تجاه الهند، والذي يعدُّ استثماراً لحشد ما أمكنها من التحالفات إلى جانبها

وأكَّدت الولايات المتّحدة مجدَّداً دعمها لعضوية الهند في مجموعة مورِّدي المواد النووية، والتزمت بمواصلة العمل مع شركائها لتحقيق هذا الهدف، وما هذا إلا نكاية بمعارضة الصين المستمرّة لانضمام الهند إلى هذه المجموعة.

وبطبيعة الحال، هناك عدّة مبرِّرات تقف وراء سخاء الولايات المتّحدة تجاه الهند، والذي يعدُّ استثماراً لحشد ما أمكنها من التحالفات إلى جانبها، كضرورة التحالف مع نيودلهي التي تعدُّ أحد أهمّ لاعبي الجنوب العالمي، والتي لها خلافات حدودية مع الصين وهذا ما تحاول أميركا استغلاله إلى أبعد الحدود في لعبة تقزيم النفوذ الصيني.

فبعد أيام على انعقاد قمّة "بريكس" الـ 15 في جنوب أفريقيا، وقبل أيام من انطلاق فعاليات القمّة السنوية لمجموعة العشرين بنيودلهي، نشرت صحيفة "غلوبال تايمز" المملوكة للدولة الصينية خريطة قياسية للصين للعام 2023 تدّعي السيادة على أراضٍ تابعة للهند، وتحديداً منطقتي أروناتشال براديش وأكساي تشين، ونتيجة لذلك أبلغت نيودلهي بكين احتجاجها الشديد واعتراضها على هذه الخريطة التي تنتهك سيادتها وذلك في 29 أغسطس/ آب الماضي.

شكَّلت هذه الخلافات الحدودية التي تفاقمت مؤخَّراً ثغرة مهمّة استغلَّها الرئيس بايدن لتأليب الهند على الصين، وإعادتها إلى الحظيرة الأميركية، خصوصاً بعدما امتنعت عن التصويت على قرارات الأمم المتّحدة التي تدين روسيا، ورفضت الانضمام إلى التحالف العالمي ضدّ روسيا، وزادت بشكل كبير مشترياتها من النفط الروسي منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.

وبالرغم من صعوبة نشوء صداقة أيديولوجية بين الرئيس الأميركي بايدن، الديمقراطي من يسار الوسط، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، القومي الهندوسي المحافظ، إلا أنّ مناورات الصين العسكرية والاقتصادية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ مكَّنت من خلق تقارب متزايد ونقاط تقاطع بين مصالح الزعيمين.

وفي خطوة تصعيدية جديدة، كانت قمّة مجموعة العشرين بنيودلهي بمثابة عرَّابة انطلاق الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، فقد وقَّعت الهند والولايات المتّحدة والإمارات والسعودية وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتِّحاد الأوروبي مذكّرة تفاهم، لإنشاء هذا الممرّ الاقتصادي الذي وصفه بايدن بأنّه استثمار إقليمي سيُغيِّر قواعد اللعبة.

كانت قمّة مجموعة العشرين بنيودلهي بمثابة عرَّابة انطلاق الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا

ولا يخفى على أحد أنّه كان يقصد بذلك التصدِّي لنفوذ الصين، ومزاحمة مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013، حيث اختُتِم الاتِّفاق بمصافحة ثلاثية ضمَّت بايدن ومودي وولي العهد الأمير محمد بن سلمان ذاته، والذي يبدو أنّه أصبح شريكاً بعد أن تقطَّعت بأميركا السبل، مع العلم أن بايدن وصفه بالمنبوذ قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة.

وكانت السعودية قد اتَّفقت مع الهند على ضخّ استثمارات هائلة بقيمة 100 مليار دولار بعد انتهاء أعمال قمّة مجموعة العشرين بنيودلهي، ويُعدّ هذا المبلغ جزءاً من مكاسب الهند من استضافتها للقمّة السنوية لمجموعة العشرين، والتي حاولت خلالها جمع كل اللاعبين البارزين تحت سقف واحد وتمرير أجندتها الخاصة في آن واحد.

يبدو أنّ المزاحمة الأميركية للصين بدأت تُؤتي ثمارها في القارّة العجوز، فعلى أمل أن تكرّ مسبحة المُنسحبين من طريق الحرير الجديد، أشارت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني خلال اجتماع عُقد على هامش قمّة مجموعة العشرين إلى أنّ بلادها تعتزم الخروج من مبادرة الحزام والطريق، التي صارت اختباراً للعلاقات الإيطالية الأميركية، حسب ما نقلته وكالة بلومبيرغ للأنباء في 10 سبتمبر الجاري.

أكَّد بيان للبيت الأبيض صدر بعد انتهاء أعمال قمّة مجموعة العشرين مجدَّداً على الشراكة بين الولايات المتّحدة والهند على عدّة جبهات، خاصة فيما يتعلَّق برقائق الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي والاتِّصالات والتعليم العالي، والوصول إلى ممرّات الشحن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وما يمكن فهمه من ثنايا هذا البيان هو إصرار الولايات المتحدة على تضييق الخناق على الصين في مجال التكنولوجيا.

لم تبتلع أميركا فكرة تفوُّق الصين تكنولوجياً، فمنعتها من الوصول إلى الرقائق الإلكترونية المصنوعة باستخدام التكنولوجيا الأميركية المتقدِّمة

لم تبتلع أميركا فكرة تفوُّق الصين تكنولوجياً، فمنعتها من الوصول إلى الرقائق الإلكترونية (أشباه الموصلات) المصنوعة باستخدام التكنولوجيا الأميركية المتقدِّمة في أيّ مكان في العالم، وها هي الآن تعقد شراكات مع كلّ الأطراف التي يمكن أن تنعش قطاع التكنولوجيا الصيني.

فبعد حضوره قمّة مجموعة العشرين في الهند، توجَّه الرئيس بايدن يوم 10 سبتمبر الجاري إلى فيتنام، لإنشاء شراكة استراتيجية شاملة ومناقشة سبل زيادة تعميق التعاون بين البلدين، لا سيَّما في قطاع أشباه الموصلات، حيث تسعى أميركا إلى إنشاء قنوات صناعية عالمية أقلّ اعتماداً على الصين.

خلاصة القول، يبدو واضحاً أنّ هذه القمم التي تُعقد مؤخَّراً بحضور زعماء العالم وتحت شعار التعاون في شتّى المجالات ما هي إلا فرص لاستعراض العضلات على المنافسين والأعداء، وأشبه ما يكون بالمزادات العلنية لمناقشة السعر المناسب لتلبية المصالح الأكثر إلحاحاً تحت الطاولة، والرابح فيها هو الذي يلعب على كل الحبال ويقتنص ما أمكنه من فرص لعقد الصفقات وتوسيع الاستثمارات.

المساهمون