مالية السلطة الفلسطينية: محاربة الإفلاس بالإسراف في الإنفاق

09 نوفمبر 2021
من موكب سيارات الرئيس الفلسطيني محمود عباس (فرانس برس)
+ الخط -

لم تمنع الأزمة المالية الحادة والديون المتراكمة التي تعانيها الموازنة الفلسطينية، من استمرار السلطة الفلسطينية في شراء سيارات جديدة وإجراء ترقيات وتعيينات وظيفية، أثارت حفيظة جهات رقابية رسمية وأهلية، خاصة في ظل تزايد الالتزامات التي أضحى عدم الوفاء بها يهدد بتوقف خدمات حيوية للمواطنين.

وكشف ديوان الرقابة المالية والإدارية التابع للسلطة الفلسطينية، عن تجاوزات مالية وإدارية طاولت معظم الوزارات والهيئات الحكومية وشبه الحكومية.

في الوقت الذي قدر فيه الفريق الأهلي لدعم شفافية الموازنة العامة التابع لائتلاف "أمان" للنزاهة والشفافية، إجمالي الالتزامات المالية على الحكومة بنحو 30 مليار شيكل إسرائيلي (9.67 مليارات دولار)، منها 12 مليار شيكل دينا عاماً، و18 ملياراً متأخرات للقطاع الخاص وصندوق التقاعد.

ديوان الرقابة المالية والإدارية التابع للسلطة الفلسطينية، يكشف عن تجاوزات مالية وإدارية طاولت معظم الوزارات والهيئات الحكومية وشبه الحكومية

ورغم انتقاد التقارير الرقابية لما وصفتها بالتجاوزات المالية والإدارية للسلطة، أظهر العدد الأخير من صحيفة "الوقائع" الرسمية، الصادر في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إصدار الرئيس محمود عباس قراراً بترقية 32 موظفاً حكومياً إلى مناصب عليا، الأمر الذي يعني تخصيص مبالغ إضافية إلى كاهل الميزانية العامة المثقلة بالعجز، وفق مراقبين.

موقف
التحديثات الحية

ومنذ سنوات والسلطة الفلسطينية تعاني من أزمات مالية متلاحقة، لكنها برزت بشكل جلي مؤخراً، بعد تهديد سلطات الاحتلال الإسرائيلي، بقطع التيار الكهربائي عن مدن عدة بالضفة الغربية نظراً لعدم تسديد السلطة ما عليها من ديون تقدر بملايين الشواكل للشركة الإسرائيلية المزودة للتيار الكهربائي، وأيضاً من خلال إعلان نقابة أصحاب محطات المحروقات في الضفة الغربية عن وقف تزويد السيارات الحكومية وسيارات الأجهزة الأمنية بالوقود بسبب تراكم مبالغ طائلة على الحكومة.

والاقتصاد الفلسطيني مرهق أصلاً بسبب ما شهده عام 2019، من أزمات مالية، أبرزها احتجاز أموال المقاصة من حكومة الاحتلال، وحدوث تراجع ملموس في الدعم الخارجي، حيث تُشكّل الإيرادات المحلية التي تجبيها الحكومة الفلسطينية حوالي 25% فقط من مجموع الإيرادات، فيما تصل نسبة المنح والهبات الخارجية سواء كانت دعماً من حكومات أو مؤسسات دولية حوالي 25% من الإيرادات.

تراجعت مداخيل خزينة السلطة بنسبة 90% خلال الـ 5 أعوام الماضية، بسبب حسم الاحتلال لجزء كبير من أموال المقاصة

أما الـ 50% المتبقية، فهي تأتي من إيرادات المقاصة التي تجبيها حكومة الاحتلال الإسرائيلي وتحولها لقاء ضرائب الاستيراد الفلسطينية عبر الموانئ والمعابر الإسرائيلية. وتختلف هذه التركيبة بين فترة وأخرى بحسب تحويلات المقاصة والمنح الخارجية وقدرة الحكومة على الجباية المحلية.

وتراجعت مداخيل خزينة السلطة بنسبة 90% خلال الـ 5 أعوام الماضية، بسبب حسم الاحتلال لجزء كبير من أموال المقاصة، وتناقص الجباية الضريبية الداخلية وما نتج عن جائحة كورونا، لكن السبب الأبرز وراء الأزمة هو توقف شبه كامل للدعم العربي والأميركي، منذ وصول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2017.

والمقاصة، هي عائدات الضرائب الفلسطينية تجبيها الحكومة الإسرائيلية نيابة عن السلطة، على واردات الأخيرة من الخارج، ويبلغ متوسطها الشهري نحو 188 مليون دولار، وتقتطع إسرائيل مقابلها عمولة تبلغ نسبتها 3%.

وانعكس ذلك في قدرة السلطة الفلسطينية على تمويل نفقاتها، حيث لجأت إلى عملية الاقتراض من البنوك المحلية، ما أدى إلى ارتفاع مديونيتها للبنوك لقرابة ملياري دولار، ولصندوق التقاعد قرابة 3 مليارات دولار، كما أن متأخرات القطاع الخاص وصلت مديونيته تقريباً إلى نحو نصف مليار دولار.

مصادر تكشف لـ"العربي الجديد" أن أكثر من 500 سيارة حكومية تم شراؤها هذا العام، منها نحو 150 سيارة خلال سبتمبر/ أيلول الماضي فقط

وأعلنت الحكومة أكثر من مرة نيتها اتباع سياسة وإجراءات التقشف أو تحسين الجباية الضريبية لمواجهة الأزمة المالية، لكن هذه المحاولات أو الجهود لم تثمر عن نتائج فعلية باتجاه تخفيض عجز الموازنة بشكل مستدام لأسباب متعددة، منها الفشل في تخفيض الإنفاق بشكل جوهري لضعف إرادة الالتزام من كبار المسؤولين في مراكز المسؤولية أو لضعف تأثير وزن هذه النفقات في هيكل النفقات الجارية، وفق مصادر مطلعة طلبت عدم الكشف عن أسمائها.

وكشفت المصادر لـ"العربي الجديد" أن أكثر من 500 سيارة حكومية تم شراؤها هذا العام، منها نحو 150 سيارة خلال سبتمبر/ أيلول الماضي فقط. كما جرى تعيين نحو 2500 موظف جديد في 2021، دون احتساب موظفي العقود الذين تم تثبيتهم، وهناك 890 ترقية لمختلف الدرجات الحكومية.

وحاول "العربي الجديد" الحصول على تعليق من الناطق باسم الحكومة الفلسطينية إبراهيم ملحم على هذه المعلومات، لكنه لم يرد على مدار أيام. في الوقت نفسه، تشير مؤسسات المجتمع المدني المهتمة بالرقابة على أداء الحكومة إلى أنها تعاني من نقص حاد في المعلومات التي توفرها الجهات المختصة الحكومية بشأن ما تقوم من إجراءات مثل التوظيف والترقيات والشراء وغيرها، ما يجعلها غير قادرة فيما إذا كانت تلك الخطوات ملحة في ظل الأزمة المالية.

وتقول رئيسة الفريق الأهلي لدعم شفافية الموازنة لميس فراج لـ"العربي الجديد" إن "هناك ضعفا شديدا في سياسة الحكومة في مجال تحقيق الشفافية في إدارة المال العام، واتباع النهج التشاركي في تحديد الأولويات في الإنفاق وتحسين واقع الإيرادات، التي لو توفرت لاستطعنا تحديد أولويات الإنفاق، ولنحدد فيما لو نحن بحاجة في خضم الأزمة المالية لشراء سيارات مثلا؟ أو ترقية موظفين أو تعيين آخرين على سبيل المثال".

جرى تعيين نحو 2500 موظف جديد في 2021، دون احتساب موظفي العقود الذين تم تثبيتهم، وهناك 890 ترقية لمختلف الدرجات الحكومية

وتضرب فراج مثالاً بقولها: "لدى محاولة معرفة تفاصيل الموازنة الحالية من خلال الاطلاع على موازنات الوزارات لم نصل إلى واقع الأرقام التفصيلية بسبب عدم التزام الوزارات بنشر موازناتها على مواقعها، الأمر الذي يثير الشكوك حول وجود سياسة شاملة تتعمد إخفاء المعلومات، وعدم تقديمها ونشرها للمواطن، مع الإشارة إلى أنّه تم نشر موازنة المواطن على موقع وزارة المالية، في حين أن الموازنة التفصيلية لم يتم نشرها".

وتضيف أنه "في ظل الأزمة، يُفترض ترشيد الإنفاق وضبط النفقات وتوجيهها، بحيث لا تؤثر على مسار العدالة الاجتماعية، الترقيات جزء من استحقاق الموظف، وحق مكتسب، وفق قانون الخدمة المدنية، لكننا لا نعلم هل الترقيات الأخيرة مثلاً مستحقة أم لا؟ هل شراء السيارات كان لأن السيارات القديمة لم تعد صالحة للاستخدام مثلا؟ لا جواب لدينا لأنهم غير شفافين، لكننا نقول إن النفقات يجب أن تكون مرتبطة بتوفر الإمكانات والإيرادات".

وتطالب فراج بنشر وإتاحة الحصول على المعلومات، "حتى نكون قادرين على التحليل وتقييم الأولويات، الوضع الحالي يجعلنا غير قادرين على المساءلة وتقديم نصائح لترشيد وضبط الإنفاق".

يأتي هذا في وقت، أعلن الاتحاد الأوروبي، استئناف الدعم المقدم للسلطة الفلسطينية بعد توقفه لشهور طويلة.

ويقول مسؤول مكتب الإعلام والاتصال في الاتحاد الأوروبي في القدس، شادي عثمان لـ "العربي الجديد": "إن الاتحاد سيصرف خلال الفترة القريبة المقبلة جزءاً من المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية، لمساعدتها على التخفيف من أزمتها المالية الخانقة، والوفاء بجزء من التزاماتها فيما يتعلق بفاتورة رواتب الموظفين الحكوميين، دون تحديد قيمتها"، فيما يشدد عثمان على أن المخرج الحقيقي يكمن بإعادة الاحتلال لأموال المقاصة كاملة دون حسم أي جزء منها.

ويشير عثمان إلى أن المساعدات المقدرة بنحو 200 مليون يورو سنوياً، متوقفة منذ بداية العام الجاري، لأسباب تتعلق بالاتحاد ذاته، وهذا التوقف شمل كثيراً من المناطق ولم يكن مختصراً على فلسطين.

مسؤول مكتب الإعلام والاتصال في الاتحاد الأوروبي في القدس: اللجوء إلى التعيينات والترقيات رغم الأزمة المالية شراء للذمم

ويرى الكاتب والمحلل السياسي خليل شاهين، أن ما ورد في تقارير ديوان الرقابة و"أمان" وغيرها تشير بشكل واضح إلى سوء في إدارة الشأن المالي والاقتصادي والاجتماعي، وكلها مرتبطة مع بعضها، "لذا فالمطلوب التفكير بالخيارات المستقبلية، لأن ذلك سيترتب عليه تغيير ذات طابع جذري في وظائف ومهمات وموازنات السلطة، لكننا لا نرى أي مقدمات في الحالة الداخلية توحي بأننا مقبلون على تحول استراتيجي".
ويشرح شاهين ذلك بقوله لـ"العربي الجديد": "الممارسة اليومية للسلطة سواء السياسية أو الاقتصادية تؤكد أن شيئاً من كل ذلك لم ولن يحدث، لذلك تتفاقم الأزمة الاقتصادية"، مرجعاً السبب إلى وجود من يحاول الاستفادة من الحالة الراهنة قدر الإمكان، وتحقيق مكاسب ومنافع شخصية على حساب المنفعة العامة.
ويضيف شاهين، "هذا بات أمراً ملموساً وشائعاً في المستويات العليا، وجزء من التعيينات والترقيات رغم الأزمة المالية قد يكون لاستمالة المزيد من المؤيدين إلى صف المتنفذين وتوسيع القاعدة التي تبايع السلطة أو شخصيات فيها، ودعم بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، والاستفادة من هؤلاء في أي معركة سياسية قادمة سواء على قيادة السلطة أو المواقع المتقدمة فيها".

المساهمون