ماكرون ووعوده الاقتصادية مجدّداً

26 ابريل 2022
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (Getty)
+ الخط -

تمكَّن إيمانويل ماكرون من الفوز بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي جرى دورها الثاني يوم 24 إبريل/ نيسان 2022 بعد صراع طاحن مع منافسته اليمينية المتطرِّفة مارين لوبان التي اتَّهمته علناً باعتناق التوجُّه الليبرالي المتشدِّد، وانتهاج سياسات تفيد الأغنياء وتؤيِّد مجتمع الأعمال، والقيام بالإصلاحات لصالح الأثرياء، والإشراف على ارتفاع كلفة المعيشة والتضخُّم والأسعار التي تتصدَّر اهتمامات الناخب الفرنسي، وحمَّلته وزر فقدان السيطرة على الهجرة من الجنوب في إطار استراتيجيتها القائمة على استمالة مشاعر الناس واللعب على الوتر الحسّاس وتقديم نفسها كنصيرة للفقراء والمهمَّشين.

خلال فترة ولايته الأولى التي امتدَّت لخمس سنوات، نفَّذ إيمانويل ماكرون جزءاً بسيطاً من الإصلاحات التي وعد بها في عام 2017 خصوصاً المتعلقة بقضايا العمل والضرائب والتعليم، لكنّه أخفق بشدّة في تحقيق العديد من الوعود الأخرى التي لم تتجاوز مرحلة الكلام كرفع المعاشات، تحسين القدرة الشرائية، خفض الإنفاق العام، تقليل عجز الميزانية، السيطرة على الدين العام وتجديد الحياة الديمقراطية.

وبالرغم من ذلك كرَّر هذه السنة وعوده بخفض الضرائب بمقدار 15 مليون يورو سنوياً، ورفع سنّ التقاعد من 62 إلى 65 عاماً من أجل توفير 9 مليارات يورو سنوياً، وتخفيف قواعد سوق العمل، وربط بعض الإعانات بالعمل المجتمعي، وإصلاح برنامج التأمين ضد البطالة بهدف دفع العاطلين من العمل إلى الانخراط في سوق العمل في ظلّ الإصرار على ركوب الموجة التي ستوصل البلاد إلى التوظيف الكامل، وخفض تكاليف تشغيل الهيئات والمؤسسات العامة بواقع 20 مليار يورو سنوياً، وتبسيط الإجراءات الإدارية ومكافحة الاحتيال من أجل توفير 15 مليار يورو سنوياً، وتحقيق الاستقلال الصناعي والزراعي لفرنسا.

وتنمّ هذه الوعود عن تمسُّك الرئيس ماكرون برسم المشهد الاقتصادي لفترة السنوات الخمس المقبلة على النحو الذي يكرِّس سياساته الليبرالية الجديدة.

كما اتَّسم برنامج الرئيس ماكرون بتفاؤل كبير في ما يتعلّق بتوفير نفقات عامة بقيمة 50 مليار يورو سنوياً خلال السنوات الخمس المقبلة، لا سيَّما في ظلّ عدم الأخذ بعين الاعتبار التوتُّرات الجيوسياسية ونقص المواد الخام وارتفاع أسعار الطاقة التي تزيد من ضبابية التوقُّعات الاقتصادية على المدى المتوسِّط.

فقد أفاد معهد مونتين الفرنسي Institut Montaigne بأنّ ذلك البرنامج، وعلى عكس ما يروِّج له ماكرون، سيكلِّف الميزانية العامة لفرنسا عجزاً بقيمة 44.5 مليار يورو سنوياً، إذ أشار المعهد إلى أنّ إجراءات ماكرون المتمثلة في رفع سنّ التقاعد إلى 65 عاماً والتوفير في نفقات تشغيل السلطات المحلية ستُمكِّن من توفير نفقات عامة بقيمة 12.7 مليار يورو سنوياً فحسب، بينما ستساهم الإجراءات الأخرى، من بينها إلغاء المساهمة على القيمة المضافة للشركات "CVAE" ومكافحة الاحتيال وإلغاء رسوم البثّ التلفزيوني وبناء مساكن إضافية وتعزيز الأمن في المناطق الريفية وحماية البيئة وبناء مفاعلات نووية لتحقيق الحياد الكربوني وتسريع وتيرة تطوير إنتاج الكهرباء باستخدام الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وإطالة عمر المحطات النووية القديمة، في رفع النفقات العامة بمقدار 57.2 مليار يورو سنوياً.

لقد كان عام 2021 مليئاً بالتطوُّرات الصحية والسياسية والاقتصادية، ومن المُتوقَّع أن يكون عام 2022 حافلاً بالتحديات بالقدر نفسه، لا سيَّما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ولم تتمكَّن إنجازات الرئيس الفرنسي في الملفات الخارجية من حجب إخفاقاته العديدة في الملفات الداخلية خاصة الاقتصادية منها، والتي أدَّت إلى ولادة حراك السترات الصفراء.

وبالرغم من ذلك استمرّ الرئيس الفرنسي بالتبجُّح بإنجازاته محاولاً خداع الرأي العام، فقد صرَّح في مقابلة له في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2021 بأنّ أقل من 5 بالمائة فقط من الفرنسيين هم الذين تدنَّى مستوى معيشتهم، بينما حصل أغنى 1 بالمائة فحسب على أرباح أكثر خلال فترة ولايته، مُستشهداً في ذلك بدراسة أجراها معهد السياسة العامة (IPP)، نُشرت في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021. بينما أشارت استطلاعات الرأي الأخرى إلى نتائجٍ مغايرة، فعلى سبيل المثال، وفقاً لنتائج استطلاع معهد الأبحاث المستقل Odoxa، التي نُشرت في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، يشعر 80 بالمائة من الفرنسيين أنّ مستواهم المعيشي قد تدهور نوعاً ما، ويرى 94 بالمائة من المستجوبين أنّ عمليات الإغلاق أدَّت إلى تسارع التضخُّم.

ووفقاً لنتائج مسحٍ آخر نشره تلفزيون BFM الفرنسي في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، يشعر 57 بالمائة من الفرنسيين بأنّ قوّتهم الشرائية قد تراجعت؛ ويتوقَّع المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية الفرنسي (INSEE)، انخفاض القوّة الشرائية بنسبة 0.5 بالمائة خلال السداسي الأول من عام 2022.

بينما ذهبت دراسة نشرها مركز الأبحاث Terra Nova في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2021 إلى ما هو أبعد من مجرَّد تحديد الرابحين والخاسرين خلال فترة السنوات الخمس، وناقشت معاناة الفرنسيين من تراجع قدراتهم الشرائية، وأكَّدت على أنّ أكثر السياسات الاقتصادية فعالية في الحفاظ على القوّة الشرائية لأفقر الفئات واحتواء معدل الفقر خلال الفترة الممتدّة من 2017 إلى 2022 هي الجهود الاستثنائية التي بُذلت في عام 2020 في ذروة أزمة كوفيد-19، كما أفادت هذه الدراسة أيضاً بأنّ أغلب المواطنين الفرنسيين من الطبقة المتوسِّطة لا يتمتَّعون بالحرية في الإنفاق ويشعرون بأنّ حريتهم في الاستهلاك قد تضاءلت مقارنة بالأجيال السابقة، حيث صرَّح 80 بالمائة من المستجوبين بأنّهم ينفقون 80 بالمائة من دخلهم على النفقات غير القابلة للضغط، كالإيجار، الماء، الغاز، الكهرباء، الغذاء والنقل، في الأيام الـ15 الأولى من الشهر خصوصاً في ظلّ الزيادات المفاجئة في أسعار الطاقة والمنتجات الغذائية.

كما أدَّى ارتفاع أسعار الأصول في فرنسا إلى تفاقم عدم المساواة في الثروة، حيث ازداد أصحاب الأصول ثراءً بشكل أسرع بكثير من بقية السكان، ونتيجة لذلك يشعر العديد من المستجوبين بالظلم والفقر النسبي وعدم الرضا عن قدرتهم الشرائية وسياسات حكومتهم.

خلاصة القول، سبق للرئيس ماكرون أن وعد الناخبين في عام 2017 بخفض عجز الميزانية إلى ما يقرب من الصفر والسيطرة على الدين وخفض الإنفاق العام، وبعد مرور خمس سنوات حدث العكس ولم ترَ تلك الوعود النور قط، وارتفع الدين العام بمقدار 600 مليار يورو، وما هذا إلّا مجرّد مثال لمصير وعود وعهود ماكرون في الانتخابات الماضية التي جرت قبل 5 سنوات.

المساهمون