ماذا لو كانت كل الاستعراضات العنترية لقادة إسرائيل ليست سوى خدعة لإيهام العرب والفلسطينيين أنهم لا يريدون وقف القتال، تاركين للعرب وأهل غزة المطالبة بذلك؟ فهل هذا الاستعراض سينفع إسرائيل في التفاوض؟ وهل سيؤدي ذلك بالضرورة إلى إظهار الجانب الفلسطيني أنه هو الطرف الأضعف، بينما الذي يريد إيقاف الحرب، ويتحرك شوقاً لها هو الجانب الإسرائيلي؟
ماذا لو كانت تصريحات نتنياهو وغالانت وغانتس أن الحرب سوف تمتد لأشهر ليست إلا لعبة بوكر يناورون بها على الجانب المقاوم لكي يطلب بنفسه ما يرجو الإسرائيليون الحصول عليه؟
ونحن في الجانب العربي قبلنا ادعاءات إسرائيل بالرغبة في إطالة أمد الحرب على علاته، وصرنا ننظِّر له. فمن قائل إن نتنياهو يطيل أمد الحرب لكي يبقى أطول مدة في السلطة، ولكي ينجو من المحاكمات التي تنتظره لاتهامه بسوء الائتمان، بل وذهب البعض إلى الحد الذي يعتقد فيه أن الحرب كلها قد صممت من قبل خبثاء في الظلام دفعوا المقاومة وأغروها بهجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 لكي تبدأ الحرب؟ وقد قبل الغالبية من الكتاب المحللين والخبراء بهذه الفرضيات وبنوا عليها نماذج طويلة.
وأثير السؤال المحير إن كانت إسرائيل هي التي ترغب في إيقاف الحرب والقتال على غزة، بل وتريد هذا الإيقاف قبل المقاومة وبرغبة تفوق رغبة المقاومة بذلك من عدد من المنطلقات الهامة.
أولها أن إسرائيل لم تخض حرباً ضروساً بهذه الشدة وبهذه المدة التي تقترب سريعاً من الأربعة أشهر من قبل. وإطالة أمد الحرب لأشهر إضافية كما يصرح قادتها سوف تعني أن اسرائيل ليست محصنة، وأن فئة قليلة من المؤمنين بالله والراغبين في الشهادة قادرون على هدم كل ما بنوه من أوهام القوة في رؤوسنا نحن العرب، وفي رؤوسهم حيث باتوا هم أنفسهم يصدقون ذلك، ولكن الوهم سوف يسقط قريباً مع تزايد ضحاياهم، واكتساب المقاومة الباسلة مزيداً من الثقة أنهم قادرون مع الوقت على إيقاع خسائر أكثر وأكثر بين صفوف الجيش الإسرائيلي.
وثانيها هو أن أنصار إسرائيل إقليمياً ودولياً سوف يصلون إلى مرحلة الحرج من قيام إسرائيل بمزيد من القتل وسفك دماء المدنيين، ويصل بهم الأمر إلى حد الإعياء، فيتخلوا عنهم. وقد لاحظنا أن نتنياهو المفلس قد بدأ يعود تدريجياً إلى الوسائل الصهيونية البالية في محاربة العرب والمقاومة مثل القول إن إسرائيل تدافع عن نفسها، وإن قتلها للأطفال والنساء هو مسؤولية المقاومة المختبئة خلفهم، وإن كل من ينتقد إسرائيل هو معاد للسامية.
صندوق الألاعيب هذا ساذج ويجب ألا ينطلي على أحد، وكثيرون من الأوروبيين والأميركيين من ضاق ذرعاً بهذا لأنه يحملهم ذنوباً ويكلفهم أموالاً وعتاداً في حرب لن تنفعهم أبداً. صحيح أن هؤلاء لا يريدون زوال إسرائيل ولا خسارتها، ولكنهم أيضاً لا يريدون أن يقفوا إلى جانب إسرائيل الظالمة المعتدية.
وثالثها أن إسرائيل تتكبد خسائر كبيرة جداً، وحتى نهاية الأشهر الثلاثة الأولى قُدرت تكاليف الحرب عليها بأكثر من (70) مليار دولار. وأنا واثق أن كلفة الحرب حتى نهاية الشهر الرابع من الحرب لن تقل عن(85) مليار دولار نتيجة لتراجع الإنتاج، ونقص الصادرات، وكلف الرواتب المدفوعة للمرتزقة بمن فيهم القلة التي تحارب معهم ممن يسمون بعرب إسرائيل، وكذلك تراجع الضرائب والإيرادات الحكومية، وكلف العتاد والذخائر، والتعويضات عن القتلى والجرحى، وتراجع سمعة إسرائيل كقوة عسكرية تستطيع فعل كذا وكذا ما سيؤدي إلى نقص الطلب على الخدمات العسكرية والدفاعية والتجسسية، وإذا استمرت الحرب لسنة كاملة، فإن يهود العالم سوف يضطرون إلى تغطية هذه الكلف، ولذلك ستتحول إسرائيل بالنسبة لهم إلى مصدر نقص في الأموال بدلاً من كونها قادرة على تمويل نفسها من إنتاجها ومن أرباحها المتحققة من الهيمنة الكاملة على الاقتصاد الفلسطيني، وأما بعض الدول التي كانت تظن أن إسرائيل واللوبيات الصهيونية في أوروبا وأميركا قادرة على التوسط لها، وتوفير التكنولوجيات والتمويل التنموي، فسترى أن لهذه الوساطة كلفة عالية، وستسعى للتعامل مع دول أخرى لا تحتاج لهذه الوساطة مثل الصين، أو روسيا أو بعض الدول الأوروبية.
ورابعها أن استمرار الحرب دون تمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها سيعطي كل المقاومين الحاليين والمقاومين المتوقعين أن يزدادوا بمعدلات نمو عالية، سوف يعرض إسرائيل لحروب أشد وأقسى في المستقبل. وأن ازدياد وتيرة الحروب سيضع إسرائيل في نفس الموقع الذي سقط فيه "الغزاة" في منطقتنا عبر العصور.
وسوف أثير نقطة هنا وهي أننا لو أجرينا تحليلاً لخريطة الجينات لدى غالبية المواطنين في شرقنا العربي لرأينا أنها متنوعة كثيراً. وقد أشار أحد خبراء علم الجينات الأردنيين من المشهود لهم دولياً إلى أن معظم اليهود الذين كانوا في منطقتنا ولم يرحلوا عنها، قد اعتنقوا الإسلام مع الوقت، وتزوجوا من المسلمين العرب الذين ستجد إن في تركيبتهم نسبة أعلى من خصائص الإثنية اليهودية من كثير من يهود إسرائيل الذين لم ينسلوا من بني إسرائيل، وهذا ينطبق على الآثار الأوروبية في جيناتنا وعلى الرومان ومن قبلهم اليونان، والمغول والتتار والأتراك والصليبيين والأكراد وجنسيات أخرى في الخليج وجنوب العراق (هندية) وغيرها.
وهذا التنوع الجيني بين عرب المشرق خاصة يدل على أن حضارتهم وثقافتهم غلابة. وأن الغزاة ليس أمامهم إلا واحد من بديلين: إما الاندماج في المنطقة والتحول إلى مكون فيها، أو الهزيمة والخذلان والخروج منها. وهناك الكثير من المؤرخين اليهود من يعرف ذلك.
خامسها هو انكشاف قادة إسرائيل وكثير من شعبها أو ساكنيها أنهم هم العنصريون الذين يدعون الأخلاق، والمغرورون بأنفسهم، والمعتقدون أنهم شعب الله المختار الذي يخولهم قتل الآخرين، علماً أن هذا لا ينفي أن فيهم كثيرين (ولكن ليس العدد الكافي لردع الطغمة الفاجرة منهم) ومن يعترفون أن أكثر الشعوب التي حمتهم ووقفت إلى جانبهم هم المسلمون والعرب.
هناك فوائد كثيرة للمقاومة إن طال أمد الحرب رغم دماء الأطفال والنساء ورغم كل الدمار المنحط الذي تسببت به أسلحة إسرائيل الفتاكة. ولذلك يجب أن نثير السؤال: من له مصلحة أكبر في استمرار الحرب هل هم الاسرائيليون ومَنْ وراءهم أم هم المقاومون الفلسطينيون الذين برهنوا على شجاعة نادرة؟
والآن يبقى السؤال الثاني: لماذا نعتقد حازمين أن نتنياهو لن يستمر بعد الحرب؟ وتبعاً لذلك هل سيكون مصيره أفضل إذا كثر المطالبون الإسرائيليون بوقف القتال؟ وهل ستؤدي الحرب إن طالت إلى مزيد من التطرف العنصري في إسرائيل أم إلى بروز قوى جديدة وأحزاب جديدة تبحث عن نموذج سياسي للتعامل مع العرب والفلسطينيين بأسلوب مختلف؟
إذا كان الجواب عن السؤال الأخير بالإ يجاب، فهذا يعني أن المتطرفين لن يسمحوا بسقوط نتنياهو، ولربما يكون من الأفضل لصالحه السماح بوقف الحرب في وقت تكون فيه إسرائيل أشد تطرفاً بدلاً من ترك الأمور تطول حتى يبدأ المشهد السياسي الإسرائيلي في التبدل؟
وإذا كان الجواب بالنفي، أو أن التطرف الإسرائيلي سوف يخسر من أرصدته بتكاثر الضحايا منهم وزيادة الكلف، فإن مصير نتنياهو طال أم قصر سيكون ما يتوقعه الجميع، محاكمات وغيابا سياسيا.
علينا أن نفهم أن الرجل كذاب ومناور. وأن أحداً لا يستطيع الاعتماد على رأي ثابت له. ولو تابعنا تصريحاته لرأينا أن له كل يوم موقفاً جديداً. إسرائيل يجب أن تعلم أنها بعد حرب غزة ليست إسرائيل التي قبلها، ويكفي قرار محكمة العدل الدولية الذي قصّر عن الاستجابة لطلب الراغبين في المقاومة ومن العرب بوقف فوري للقتال. ولكن إن قررت الحكومة الإسرائيلية الاستمرار في مناوراتها ومسرحياتها بإطالة الحرب، فأعتقد أن المقاومة ستكسب أنصاراً جدداً.
على السياسيين والقادة المسؤولين في الوطن العربي أن يدركوا أن الجمهور العربي لا يزداد اعتدالاً حيال إسرائيل في ضوء فداحة الجرائم والهدم والتدمير والحرمان التي مارستها على المدنيين من الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، بل يزدادون كرهاً لإسرائيل والمواقف شبه الحيادية للأنظمة العربية لن تفيدها أمام الجماهير العربية، وانتصار إسرائيل الذي أتوقع من الله أن يحول دونه لأنه مع الصابرين، سيكون أكثر ضرراً على السياسيين العرب من هزيمة إسرائيل أو عدم انتصارها.
على العرب أن يقفوا وقفة واضحة تتجلى في مؤتمر قمة قريباً يعربون فيه عن موقف واحد، وهو أن توقف إسرائيل الحرب وتنسحب من غزة فوراً، أو أن العرب سيبقون جميعاً مع المقاومة طال أمد الحرب أم قصر.