تجد الأرجنتين نفسها عالقة في متاهة لا تجد في نهايتها إلا خيارين اثنين: إما إصلاحات صندوق النقد الدولي القاسية على شعبها ودولتها، أو الانهيار الاقتصادي والمالي والمعيشي الشامل.
وتشترك الأرجنتين وصندوق النقد في تاريخ صعب يمتد لسبعة عقود، ويبدو أن الأمور قد تزداد سوءاً.
قبل 5 سنوات فقط، أصبحت الأرجنتين أكبر مدينة للبنك الدولي الذي يقع مقرّه في واشنطن، حيث تلقت خطة إنقاذ بقيمة 57 مليار دولار لمساعدة حكومة الرئيس آنذاك موريسيو ماكري الصديقة للسوق على الخروج من أزمة اقتصادية اتسمت بارتفاع التضخم وعجز كبير في الميزانية.
لكن هذا البرنامج فشل في إعادة ثاني أكبر اقتصاد في أميركا الجنوبية إلى الوقوف على قدميه من جديد.
وبالمضي قدماً، أصبحت الأرجنتين على وشك الدخول في حالة من الركود، مع ارتفاع التضخم إلى أكثر من 100% واحتياطياتها من الدولار في عمق المنطقة الحمراء.
وفي الوقت نفسه، فشلت الحكومة التي يقودها البيرونيون، والتي تولت السلطة في أواخر عام 2019 في تحقيق الأهداف الاقتصادية المتواضعة التي فرضها قرض صندوق النقد الدولي لعام 2022 المصمم لإعادة تمويل 44 مليار دولار لا تزال مستحقة من البرنامج السابق.
ورغم أنّ البرنامج الحالي خرج عن المسار الصحيح، فإنّ صندوق النقد الدولي يمضي قدماً في المراجعات والمدفوعات لأنه لا يريد إرغام الأرجنتين على التخلف عن السداد الذي من المرجح أن يؤدي إلى تفاقم الظروف الاقتصادية القاتمة في البلاد.
ومع ذلك، تتزايد الضغوط داخل وخارج صندوق النقد الدولي لضمان أن معاملة الأرجنتين تتماشى مع معاملة البلدان الأخرى. وقال محللون إنّ صندوق النقد الدولي يحتاج إلى اتخاذ موقف أكثر صرامة، عندما تتولى حكومة جديدة السلطة بعد الانتخابات في أكتوبر/ تشرين الأول.
ممثل الولايات المتحدة السابق لدى صندوق النقد مارك سوبيل قال: "بغض النظر عمن سيفوز بعد التصويت، يجب على صندوق النقد الدولي أن يصر على أن الحكومة يجب عليها أن تتقبل الأمر، وإلا يجب على الصندوق أن يسحب دعمه، وحتى لو كان ذلك يعني متأخرات ضخمة".
وقد تشعر الحكومة المقبلة بخطورة الأمر بسرعة. ويريد خافيير مايلي، وهو من خارج الحزب اليميني المتطرف والذي قفز إلى موقع المتسابق الأول بعد الانتخابات التمهيدية الشهر الماضي، دولرة الاقتصاد وقال إن الصندوق يجب أن يشجع الأرجنتين على خفض عجزها المالي الأساسي بسرعة أكبر، والذي يستهدف 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي. الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023.
وحتى لو فاز في انتخابات 22 أكتوبر/ تشرين الأول وتولى السلطة في ديسمبر/ كانون الأول، فسوف يحتاج مايلي إلى تحالفات في الكونغرس للمضي قدماً في الإصلاحات وبرنامج صندوق النقد الجديد، وهو البرنامج الثالث والعشرون للأرجنتين.
وقال سوبيل إن البلاد ستحتاج إلى ضبط مالي شامل، ووقف إنشاء الأموال الاحتياطية، وتحرير واسع النطاق ومتسلسل لأسعار صرف العملات الأجنبية المتعددة، وضوابط رأس المال وغيرها من القيود.
وقد وعد وزير الاقتصاد سيرجيو ماسا، المرشح الرئاسي لائتلاف يسار الوسط البيروني، هذا الأسبوع، بإعفاء ملايين العمال من دفع ضرائب الدخل بعد فترة وجيزة من صرف دفعة جديدة من الصندوق.
المدير السابق لإدارة الاستراتيجيات والسياسات والمراجعة في صندوق النقد الدولي مارتن موليسن، قال إن الشروط الأكثر صرامة والإصلاحات الهيكلية الأعمق لبوينس آيرس يجب أن تأتي مع "مكون اجتماعي قوي للغاية"، مضيفاً أن البرنامج الجديد "لا يمكن أن يعني" أن المزيد من الناس يعيشون في الشوارع"، علماً أن 4 من كل 10 أرجنتينيين يعيشون تحت خط الفقر.
وقال موليسن: "الرسالة الموجهة إلى الأرجنتين من صندوق النقد الدولي وأيضا من المساهمين في مجموعة السبع يجب أن تكون واضحة: عليك أن تصلح اقتصادك بشكل حقيقي وإلا لن يكون هناك المزيد من الأموال".
والأرجنتين، وهي من أكبر مصدري فول الصويا والنفط، تقع تحت رحمة دورات الازدهار والكساد. فقد تأرجحت سياساتها الاقتصادية بين تدابير الحماية ـ ضوابط رأس المال، وحصص التصدير والتعريفات الجمركية ـ والإصلاحات الداعمة للسوق، الأمر الذي أدى إلى علاقة مقلوبة رأساً على عقب مع الصندوق.
في التسعينيات، كان المقرض العالمي سمة مستمرة في الأرجنتين، حيث قدم التمويل والمساعدة الفنية بينما ثبتت الحكومة البيزو مقابل الدولار الأميركي. لكن الانسحاب السريع من صندوق النقد الدولي في العام 2001 أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية مع تضخم ديون البلاد الخارجية.
وكان صعود اليساري نيستور كيرشنر إلى الرئاسة في العام 2003 سبباً في فتح فصل جديد، حيث اتخذت حكومته وجهة نظر معادية لصندوق النقد الدولي وسددت نحو 10 مليارات دولار من الديون المستحقة للصندوق قبل قطع العلاقات.
وبعد 15 عاماً من عدم وجود برامج، عادت الأرجنتين إلى صندوق النقد في العام 2018 لطلب خطة إنقاذ قياسية. ومهدت هذه الجهود الطريق أمام البرنامج الذي تبلغ قيمته 57 مليار دولار، والذي فشل في نهاية المطاف وحل محله البرنامج الحالي.
أستاذ مشارك في العلوم السياسية في جامعة نورث وسترن في شيكاغو ستيفن نيلسون: "إن ظلال هذا البرنامج الفاشل ستظل باقية على كل من الإدارة الجديدة وصندوق النقد، حيث إن هناك ذاكرة مؤسسية حول كيف أن هذا البرنامج لم يساعد".
ومن الممكن أن ينتهي البرنامج الحالي قبل انتهاء صلاحيته في سبتمبر/ أيلول 2024، لكن الأرجنتين ستظل بحاجة إلى أموال.
(رويترز، العربي الجديد)