وقَّع الرئيس الأميركي جو بايدن السبت الماضي قانون المسؤولية المالية، بعد أن أقره الكونغرس بمجلسيه، في آخر حلقات مسلسل طويل، سيطرت على أجواء السياسة في واشنطن، والاقتصاد في نيويورك، لتنتهي دراما اقتراب الخزانة الأميركية من التخلف عن سداد ديونها، لأول مرة في التاريخ.
بدأت القصة حينما أعلنت وزارة الخزانة جانيت يلين، مطلع العام الحالي، أن الدين الأميركي قد وصل إلى السقف المسموح به، كما أقره الكونغرس، مشيرة إلى أنه في حالة عدم رفع السقف أو تعليقه، فإن الحكومة الأميركية لن تستطيع الوفاء بما عليها من التزامات.
ألقت هذه الأحداث بالضوء على شيء غير مألوف لدينا في المجتمعات العربية، حيث اتضح أن رئيس أكبر دولة في العالم، صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، لا يستطيع هو وحكومته الاقتراض بلا حساب، وأن كل ما يمكن أن يفعلوه هو الاقتراض في حدود المبلغ الذي وافق عليه أعضاء الكونغرس من المنتخبين في مجلسي النواب والشيوخ.
ومع تعذر اتفاق الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، على رفع سقف الدين وقتها، أعلنت وزارة الخزانة عن اتخاذ "إجراءات استثنائية"، تسمح بسداد ما عليها من التزامات، في حدود الإيرادات المتوقعة، ودون اللجوء للمزيد من القروض التي لم يسمح بها الكونغرس، وقالت إن هذا الإجراء يؤجل نفاد ما لديها من نقدية، إلى بداية شهر يونيو/حزيران، على أقل تقدير.
منحت خطوة الخزانة الأميركية الحزبين فسحة من الوقت، افترض كثيرون أنها كافية للتوصل إلى اتفاق، إلا أن الأمور تعثرت، حتى الأسبوع الأخير من شهر مايو/أيار، وهو ما بدأ يلقي بظلاله على أسواق الأسهم والسندات، ودعا مؤسسة التقييم الدولية فيتش إلى التحذير من قيامها بخفض التصنيف الائتماني للديون الأميركية، بسبب الانقسام السياسي المسيطر على البلاد، والذي حال دون التوصل إلى حل سريع للأزمة.
لم يكن رفع سقف الدين، أو تعليقه، في حد ذاته هو المشكلة، حيث سبق أن مرت البلاد بنفس الظروف عشرات المرات، وكان قرار تعليق السقف أو زيادته يمر بصورة تكاد تكون روتينية. وقالت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، إن سقف الدين تم تعليقه أو زيادته في ظروف مشابهة، في 80 حالة سابقة.
لكن المشكلة هذه المرة كانت في محاولة الحزبين استغلال فرصة اعتبرها كل طرف مواتية لتحقيق بعض المكاسب السياسية. فالرئيس بايدن كان يرغب في الحصول على موافقة على تعليق سقف الدين، ليتمكن من تنفيذ خططه التي وعد بها الناخبين، من زيادة في الإنفاق الاجتماعي، وتوسيع نطاق خدمات الرعاية الصحية، وغيرها، بينما رأى كيفن مكارثي، رئيس مجلس النواب، الفرصة مواتية للضغط على الإدارة الأميركية، لتخفيض الإنفاق الحكومي.
كان مكارثي، الجمهوري الذي يسيطر حزبه على مجلس النواب، يدرك أن بايدن لن يتمكن من تمرير تعليق سقف الدين دون موافقة الجمهوريين، فأراد أن يحصل على بعض التنازلات مقابل ذلك. ولعب التوقيت دورا هاماً، حيث يستعد كلا الحزبين لبدء الحملات الانتخابية، في دورة تشهد أيضاً انتخابات رئاسية، ما دعا مكارثي للتمسك برفضه تعليق السقف بلا تخفيضات حقيقية في الميزانية.
واعتبر بايدن، وحزبه الديمقراطي، أن الحزب الجمهوري يأخذ الاقتصاد الأميركي، والأميركيين، رهينة، من أجل فرض سياساته على الإدارة، مشيراً إلى مبدأ هام تلتزم به الإدارات الأميركية على مر العصور، وهو عدم الدخول في مفاوضات مع من يأخذون الرهائن. وقال بايدن في أكثر من مناسبة، "فلنرفع سقف الدين، ثم نناقش بعدها قضية تخفيض الإنفاق"، لكن الجمهوريين لم يقبلوا بذلك.
استمر الوضع على ما هو عليه، بإعلان تحقيق تقدم تارة، ثم الإعلان عن فشل المفاوضات تارة أخرى، حتى اضطر الرئيس الأميركي لتقديم تنازل، طالما أكد رفضه القبول به، حيث وافق على إجراء تخفيض للإنفاق الحكومي، للعامين القادمين، مقابل تعليق سقف الدين حتى يناير/كانون الثاني من عام 2025.
أهم ما في الموضوع هو إعلاء كلمة "المنتَخب (أعضاء الكونغرس) على المُعَين (وزيرة الخزانة)، حيث لا تستطيع الأخيرة أن تقترض دون الحصول على الموافقة المسبقة من الناخبين، حتى لو حصلت على تأييد رئيس الجمهورية.
هذا الرئيس لا يقول لشعبه "مش عايز كلام في الموضوع ده تاني"، ولا "اسمعوا كلامي أنا فقط"، ولا يمكنه أن يجري اتفاقيات على ديون جديدة، حتى لو اقتربت البلاد من الإفلاس، كما بدا الأمر في أميركا، إلا بعد الحصول على موافقة ممثلي الشعب.
أما ممثلو الشعب فلا يعطون شيكات على بياض للرئيس، ويعبر كل منهم عن رأيه ويرفع مخاوفه بوضوح، قبل أن يعطي موافقته. هؤلاء يعرفون أن الشعب، ووحده الشعب، أتى بهم ليمثلوه ويحافظوا على مصالحه، فإن لم يفعلوا، فسيفقدون مناصبهم في أقرب انتخابات.
هكذا تدار الأمور في البلدان المتقدمة، يتشارك حزب الرئيس مع الحزب المعارض في وضع السياسات وتخصيص الأموال، وفي تحديد جهات الإنفاق، وفي تحديد مصادر التمويل، فلا ينفرد حزب بقيادة البلاد، ولا تخضع الأمور الاقتصادية لأهواء فرد، سواء كان وزير المالية أو رئيس البنك المركزي، أو حتى رئيس الدولة.
تعاني الكثير من الدول العربية عجزاً دائما في ميزانياتها وفي حسابها الجاري، فتضطر إلى الاستدانة، ولا عيب في ذلك. لكن المشكلة أن الحكومات، التي لا يكون أغلبها غير منتخب بصورة سليمة، تفرط في الاقتراض بغير حساب، بالعملة المحلية والعملة الأجنبية، وتضطر في كثير من الأحيان للتضييق على المواطنين، فتخفض ما يتم إنفاقه على التعليم والصحة والبحث العلمي، كما أغلب نواحي الإنفاق الاجتماعي، بما يتعارض مع دساتير هذه البلاد.
ثم يأتي دور الجهات النيابية، فلا تكون منتخبة بطريقة ديمقراطية سليمة، بل بعضها يتم تعيينه بواسطة السلطات التنفيذية النافذة في البلاد، فلا يكون لهم "عين" يراقبون بها، ولا حتى يفتحونها، والنتيجة ضياع موارد البلاد، والوقوع في أزمة بعد الأخرى. ولكن بالتأكيد ليس هكذا تدار البلاد.