فشلت أمس الاثنين محاولة لإحياء اتفاق الحبوب خلال الاجتماع الذي جمع الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والتركي، رجب طيب أردوغان، في منتجع سوتشي جنوب روسيا.
وخسر سوق الحبوب العالمي رهانه في توصل الزعيمين إلى اتفاق يعيد الحياة لصفقة الحبوب، ويعمل على تفادي وقوع أزمة غذاء جديدة في ظل تباين وجهات النظر بين موسكو وأنقرة.
ورغم فشل الجولة الحالية من المباحثات إلا أن مصادر روسية وتركية تتوقع استمرار المشاورات الروسية التركية بعد قمة سوتشي بشأن صفقة الحبوب.
ويسعى أردوغان إلى إقناع بوتين بالعودة إلى مبادرة حبوب البحر الأسود بعد انسحاب موسكو في يوليو/ تموز، لينتهي بذلك الاتفاق الذي استمر عاما وسمح بالتصدير الآمن للحبوب من الموانئ الأوكرانية.
وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده أمس مع نظيره التركي تحدث الرئيس الروسي عن مسار مواز لاتفاق الحبوب الذي انسحبت منه موسكو في 18 يوليو الماضي، ويقضي المسار الجديد بإرسال شحنات حبوب روسية مباشرة ومجاناً إلى أفريقيا.
وقال: "نحن بصدد إبرام اتفاق لتزويد أفريقيا بالغذاء مجانا، والإمدادات ستبدأ في غضون أسبوعين أو ثلاثة وليس شهرين أو ثلاثة".
ورد أردوغان عليه بأن هذا لا يلبي المطلوب، وأن خيارات بديلة لمبادرة حبوب البحر الأسود لا توفر حلا دائما. ورغم الخلاف في وجهة النظر مع بوتين إلا أن أردوغان قال إنه يعتقد بأنه يمكن التوصل قريبا إلى حل بشأن إحياء اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود الذي توسطت فيه الأمم المتحدة، بما في ذلك سد الفجوات المتبقية.
وفي رسالة إلى كييف للمساهمة في إنجاح المفاوضات الجارية قال أردوغان إن أوكرانيا بحاجة إلى تخفيف موقفها التفاوضي ضد روسيا في المحادثات الرامية إلى إحياء اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود.
وأضاف للصحافيين بعد اجتماع مع بوتين "على أوكرانيا أن تخفف نهجها حتى يكون من الممكن لها اتخاذ خطوات مشتركة مع روسيا". ونادى بضرورة إرسال المزيد من الحبوب إلى أفريقيا بدلا من الدول الأوروبية.
ورغم حديث موسكو عن مسار بديل لاتفاق الحبوب الذي انسحبت منه إلا أن بوتين قال عقب اجتماع مع نظيره التركي إن روسيا ستكون مستعدة للعودة إلى اتفاق حبوب البحر الأسود بمجرد تنفيذ جميع الاتفاقات المتعلقة به.
وانتقد الغرب مجددا بسبب هذا الاتفاق الذي انسحبت منه روسيا في يوليو/ تموز. وفي ما يتعلق بالمبادرة القطرية التركية قال بوتين إن خطط إرسال مليون طن من الحبوب للدول الفقيرة بالتعاون مع تركيا وقطر ليس بديلا لاتفاق حبوب البحر الأسود.
وكانت أسواق الحبوب متفائلة أمس قبيل بدء اجتماع أردوغان مع بوتين، حيث أكد الرئيس التركي، أن الرسالة التي سيتم توجيهها للعالم بشأن اتفاقية شحن الحبوب عبر البحر الأسود عقب لقائه مع نظيره الروسي، ستكون مهمة للغاية. لكن مع فشل الجولة الحالية يتوقع تجار أن تشهد أسعار الحبوب زيادة في الأسواق الدولية.
ورغم الفشل أكد بوتين في ختام المحادثات على بدء روسيا بتوريد حبوب مجانية إلى ست دول أفريقية خلال أسبوعين أو ثلاثة، معربا عن استعداد الجانب الروسي لتوريد مليون طن من الحبوب إلى تركيا لمعالجتها وتوريدها مجانا إلى أفقر دول العالم. وأعرب عن أمله في "عون دولة قطر لدعم أفقر الدول لاعتبارات إنسانية".
وفي سياق "صفقة الحبوب"، أوضح بوتين أن موسكو مستعدة للنظر في إنعاشها بعد رفع القيود عن الصادرات الزراعية الروسية، قائلا: "سنفعل ذلك فور الوفاء بكافة الاتفاقات المثبتة فيها (أي في الصفقة) بشأن رفع القيود عن تصدير المنتجات الزراعية الروسية".
وحمل دول الغرب المسؤولية عن عرقلة الوفاء بالمطالب الروسية ضمن "صفقة الحبوب"، بما في ذلك في ما يتعلق بتصدير الحبوب الروسية.
وجاءت تصريحات بوتين هذه بعد ساعات على تأكيده خلال القسم الموسع من اللقاء مع أردوغان على استعداد موسكو للمفاوضات بشأن "صفقة الحبوب" التي انسحبت منها روسيا في يوليو/تموز الماضي، قائلا: "نحن منفتحون على المفاوضات بشأن هذه المسألة".
واستمرت المفاوضات في إطار موسع لنحو ساعة ونصف الساعة، ثم واصلها الرئيسان بنظام مغلق.
وبذلك لم تشهد قمة سوتشي انفراجة للخلافات الروسية الغربية بسبب الشق الخاص بحقوق روسيا في إطار "صفقة الحبوب"، وفي مقدمتها فتح الأسواق العالمية أمام الحبوب والأسمدة الروسية وإعادة توصيل مصرف "روس سلخوز بنك" الزراعي الروسي بمنظومة "سويفت" العالمية للتحويلات المالية.
وتشير الرواية الروسية إلى أنه خلال عام من الصفقة مع أوكرانيا، جرى تصدير ما مجموعه 32.8 مليون طن من الشحن ذهبت أكثر من 70% منها إلى دول ذات مستوى دخل مرتفع أو فوق متوسط، وفي مقدمتها بلدان الاتحاد الأوروبي، بينما بلغت حصة الدول الأقل تنمية نحو 3% فقط، أي أقل من مليون طن، مما دفع بموسكو للتشكيك مرارا في صدق نوايا الغرب لتمديد الصفقة بهدف تحقيق الأمن الغذائي للدول الفقيرة.
ومع ذلك، يتوقع الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية، كامران غسانوف، استمرار المشاورات الروسية التركية بعد قمة سوتشي، لا سيما في ملفي التسوية الأوكرانية وتصدير الحبوب، جازما بأن استقلالية أنقرة عن حلف الناتو واسترشادها بمصالحها الوطنية يحظيان بالأولوية لدى الكرملين بصرف النظر عن حسم مسألة الحبوب.
ويقول غسانوف في حديث لـ"العربي الجديد": "مقابل موافقة موسكو على تصدير الحبوب الأوكرانية في مرحلة لاحقة، يمكن لأنقرة توفير مجمع للمنتجات الزراعية والغذائية الروسية على أراضيها، وليس من باب الصدفة أنه جرى حديث عن توصل موسكو إلى اتفاق مع تركيا وقطر بشأن إبرام صفقة تشمل مليون طن من الحبوب الروسية. وفي الملف الاقتصادي أيضا، فإن تركيا مستعدة لتوفير أراضيها لتصوير فوائض الغاز الروسي".
ويلفت إلى أنه رغم بعض التباينات، إلا أن موسكو تسعى للحفاظ على الشراكة مع أنقرة، مستشهدا بإشادة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، خلال لقائه الأخير مع نظيره التركي، هاكان فيدان، بما اعتبره "سياسة أنقرة الخارجية المستقلة والموجهة نحو تحقيق مصالحها الوطنية".
ويضيف غسانوف أن "تحرر تركيا من حلف الناتو هام للغاية بالنسبة إلى الكرملين في وقت يسعى الغرب فيه لجر العالم أجمع إلى صف مواجهة روسيا في ظروف احتياجها إلى الاستيراد الموازي"، وهي آلية تلجأ إليها روسيا في ظروف العقوبات الغربية للحصول على سلع الشركات الغربية المنسحبة من السوق الروسية عبر دول ثالثة، بما فيها تركيا، من دون اللجوء إلى وكيل معتمد.
ويخلص إلى أن "روسيا تثمن الجهود التركية في ملفي "صفقة الحبوب" والتسوية الاوكرانية، ولا تحملها المسؤولية عن عدم الوفاء بالشروط الروسية، بل تلقي باللائمة على الغرب"، وهو ما جدد بوتين تأكيده بعبارات صريحة اليوم.
وتعد قمة أمس هي أول لقاء شخصي بين بوتين وأردوغان منذ لقائهما على هامش الدورة السادسة لمؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا في أستانة في منتصف أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
كما تعد هذه أول زيارة للرئيس التركي إلى روسيا منذ أكثر من عام، حيث زار سوتشي أيضا في بداية أغسطس/آب 2022. ومع ذلك، أجرى الرئيسان الروسي والتركي مجموعة من الاتصالات الهاتفية خلال هذه الفترة، وكان آخرها في 2 أغسطس/آب الماضي.
أما إبرام "صفقة الحبوب"، فيعود إلى 22 يوليو/تموز 2022، حين وُقّعت بين ممثلي تركيا والأمم المتحدة من جانب، وممثلي روسيا وأوكرانيا من جانب آخر. وتم إبرام اتفاقين منفصلين مع موسكو وكييف، أحدهما لإخراج الحبوب الأوكرانية من ثلاثة موانئ هي أوديسا ويوجني وتشيرنومورسك، والثاني لتصدير الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية.
ورغم قبولها بتمديد الصفقة مرات عدة، إلا أن موسكو وجهت انتقادات متكررة لما اعتبرته توجيه إمدادات الحبوب الأوكرانية إلى الدول الغنية والمتقدمة، وليس إلى الدول النامية والفقيرة في أفريقيا كما تم تسويق الهدف من الصفقة وقت إبرامها، وسط شيطنة روسيا وتصويرها كدولة قد تتسبب في مجاعة عالمية.
وفي حديث سابق لـ"العربي الجديد"، عشية القمة في سوتشي، قلل مدير مكتب التحليل في مركز "سونار-2050" لدراسات قضايا تكامل الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، إيفان ليزان، من أهمية الكلام عن أن انسحاب روسيا من "صفقة الحبوب" ينذر بمجاعة في أفريقيا، قائلا: "فعليا، أسفر تعليق "صفقة الحبوب" عن إعادة توزيع الأسواق، إذ تكاد أوكرانيا توجه جميع صادراتها الزراعية إلى الاتحاد الأوروبي، بينما تستحوذ روسيا على حصص كييف في أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا والهند".
وخلص ليزان إلى أن تحقيق الأمن الغذائي للدول الأفريقية لا يعتمد على "صفقة الحبوب" بقدر ما هو مرهون بتزويدها بالمعدات والتكنولوجيا الزراعية والأسمدة والبذور.
وبعد الانسحاب من اتفاق نقل الحبوب عبر البحر الأسود، شنت روسيا مرارا هجمات على الموانئ المطلة على نهر الدانوب الذي أصبح منذ ذلك الحين الممر الرئيسي لتصدير الحبوب الأوكرانية. وأصبح نهر الدانوب طريقا رئيسيا لأوكرانيا لتصدير الحبوب منذ يوليو.