لبنان 2022: عام الاستحقاقات الداهمة

07 يناير 2022
الأزمة الماليّة تتفاقم في لبنان (getty)
+ الخط -

لم يحمل العام الماضي أي تطوّرات إيجابيّة على مستوى الأزمة الماليّة في لبنان. فحتّى شهر أيلول/سبتمبر من عام 2021، عاشت البلاد في ظل الفراغ الحكومي، الذي ترك البلاد تحت رحمة حكومة مستقيلة لا تملك سوى صلاحيّة تصريف الأعمال.

ثم نالت حكومة ميقاتي الثقة في المجلس النيابي، لكنّها ما لبثت أن دخلت في تأزّم سياسي كبير بعد نحو شهر واحد فقط، لتتوقّف اجتماعات مجلس الوزراء، ويقتصر عمل الحكومة على تحضير الملفّات والمقترحات في اللجان الوزاريّة والاستشاريّة، بانتظار التئام مجلس الوزراء لمناقشتها. بمعنى آخر، ظلّ الارتباك والجمود يخيّمان على عمل السلطة التنفيذيّة طوال العام، ما حال دون السير بالخطّة الماليّة الشاملة التي يفترض أن تكون خارطة طريق لبنان للخروج من الانهيار الاقتصادي.

في بيئة سياسيّة واقتصاديّة من هذا النوع، واجه المقيمون تداعيات فقدان المبادرة على مستوى المؤسّسات الدستوريّة. فخلال العام الماضي، بدد مصرف لبنان المركزي نحو 30% من احتياطات العملة الصعبة المتبقية لديه، في عمليّات تمويل استيراد السلع الأساسيّة بأسعار الصرف المدعومة، دون أن يتوازى ذلك مع أي رؤية لكيفيّة الخروج من مرحلة تعدد أسعار الصرف، والتحوّل نحو سعر صرف موحّد وعائم ومضبوط من قبل المصرف المركزي.

وحتّى بعد إلغاء أسعار الصرف المدعومة لاستيراد السلع الأساسيّة، استمرّ الاستنزاف في هذه الاحتياطات، نتيجة فشل المنصّة التي كان يفترض أن تكون أداة التداول الحرّ بالعملات الأجنبيّة، واضطرار المصرف المركزي للتدخّل وتأمين الدولارات للمستوردين عبر هذه المنصّة.
تخبّط السياسة النقديّة، التي كانت تعمل من خارج أي خطّة ماليّة متكاملة، انعكس في قيمة الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار في السوق الموازية. ولهذا السبب، ارتفعت قيمة الدولار مقابل الليرة اللبنانيّة بنحو 3 أضعاف بين بداية العام ونهايته، فيما انعكس ذلك بارتفاع معدّل التضخّم السنوي إلى حدود 201% لغاية بداية شهر كانون الأوّل/ديسمبر من هذا العام.
ومع كل ارتفاع في معدلات التضخّم، كانت القدرة الشرائيّة لأجور المقيمين تتقلّص، ما رفع نسبة المقيمين الذي يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد إلى نحو 82% خلال 2021، مقارنة بـ42% خلال بدايات الأزمة سنة 2019.
أمام هذا المشهد السوداوي، الذي تمتزج فيه تراكمات العام الماضي مع الركود القائم على المشهد السياسي، يقبل لبنان خلال العام 2022 على مجموعة من التحديّات والاستحقاقات التي ستلعب دور مفصلي على مستوى الأزمة الماليّة.
الاستحقاق الأوّل الذي سينتظر لبنان في مطلع العام هو إقرار الخطّة الماليّة التي تعمل عليها حاليًّا لجنة حكوميّة خاصّة، لتتمكّن البلاد من الانطلاق في مفاوضاتها الرسميّة مع صندوق النقد الدولي على أساس هذه الخطّة.
مع الإشارة إلى أن اللجنة أنجزت خلال الأشهر الماضية تقديراتها الخاصّة لخسائر القطاع المالي، بالتفاهم مع المصرف المركزي، فيما يفترض أن تنتقل اليوم إلى صياغة المعالجات والسياسات التصحيحيّة بالتشاور مع وفد صندوق النقد، وقبل انطلاق جولات التفاوض الرسميّة.

ارتفعت قيمة الدولار مقابل الليرة اللبنانيّة بنحو 3 أضعاف بين بداية العام ونهايته

على أي حال، ترتبط بهذا الاستحقاق البالغ الأهميّة جملة من التحديات، أبرزها تلك المتعلّقة بشلل مجلس الوزراء وعدم انعقاده منذ تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي. وهذا التحدّي هو ما يحول حتّى اللحظة دون مناقشة كل ما قامت اللجنة الوزاريّة بالعمل عليه من مقاربات لقياس الخسائر، وهو ما سيحول أيضًا دون إقرار الخطّة بعد إنجازها.
أمّا الخشية الأكبر، فهي من إمكانيّة أن تؤدّي المناكفات السياسيّة إلى فقدان الغطاء المحلّي المطلوب لهذه الخطّة، حتّى لو اجتمعت الحكومة بشكل طارئ لإقرارها لاحقًا. وفي هذه الحالة، ستواجه الخطّة الجديدة نفس مصير خطة حكومة حسان دياب الماليّة، التي تم إقرارها في مجلس الوزراء، قبل أن تقوم القوى السياسيّة بإطاحتها في المجلس النيابي.
وفي الوقت نفسه، يتزامن العمل على الخطّة الماليّة والمعالجات التي تتضمّنها مع تحضّر القوى السياسيّة لاستحقاق الانتخابات النيابيّة في شهر أيّار/مايو المقبل.
وهذا التزامن بين الاستحقاقين، سيطرح جملة من التحديات الكبيرة خلال هذا العام، أبرزها عدم رغبة القوى السياسيّة في اتخاذ قرارات غير شعبيّة يمكن أن تحتاجها البلاد، كجزء من خطّة التعافي المالي.

فتصحيح تعرفة الكهرباء والاتصالات والمياه وسائر الخدمات العامّة بعد انهيار سعر صرف الليرة، وتصحيح سعر الصرف المعتمد لاحتساب الرسوم الجمركيّة، جميعها إجراءات لا تتسم بالقبول الشعبي في الوقت الراهن، بالرغم من حاجة خطّة الحكومة إليها لتقليص نسبة العجز في الميزانيّة العامّة، وتفادي إفلاس المؤسسات الحكوميّة المعنيّة بهذه الخدمات.
وهكذا، ستقع الخطة الماليّة بين مطرقة متطلبات مرحلة التصحيح المالي القاسية، ناهيك عن شروط صندوق النقد الأقسى، وسندان القرارات والخطابات الشعبويّة التي تلجأ إليها الأحزاب السياسيّة في لبنان قبل مواسم الانتخابات النيابيّة.
أمّا الخشية الأكبر، فهي من إمكانيّة تطيير الاستحقاق الانتخابي أو تأجيله، نتيجة خشية معظم الأحزاب السياسيّة من تقلّص شعبيّتها بعد الأزمة.
مع العلم أن ثمّة سوابق تاريخيّة عديدة جرى خلالها التمديد لولاية مجلس النوّاب في لبنان، وهو ما يفسّر وجود هذا النوع من الهواجس لدى الرأي العام. وفي حال حصول هذا السيناريو، فمن المتوقّع أن يمثّل هذا التطوّر طعنة لمشروعيّة السلطة في خضم مفاوضاتها مع صندوق النقد.
بالإضافة إلى كل هذه الاستحقاقات الداهمة، تقف البلاد في مطلع العام الجديد أمام استحقاق لا يقل أهميّة. فمع بداية السنة الحاليّة، انتهت مهلة قانون رفع السريّة المصرفيّة لغايات التدقيق الجنائي، وهو القانون الذي يسمح لشركة آلفاريز آند مرسال المكلّفة بالتدقيق في ميزانيّات المصرف المركزي بالحصول على المعلومات التي تحتاجها. وبما أن الشركة لم تبدأ حتّى اللحظة بمهمّة التدقيق المكلّفة بها، نتيجة عدم تزويدها بجميع المعلومات التي طلبتها لبدء المهمّة، فهذا التطوّر القانوني سيعني إعادة الشركة إلى نقطة الصفر وفرملة عملها.
وهكذا، سيكون قد مرّ أكثر من سنة وتسعة أشهر على إقرار مسار التدقيق الجنائي في مجلس الوزراء، دون أن تتمكّن الشركة من الانطلاق في عمليّة التدقيق. ولهذا السبب بالتحديد، ثمّة من يخشى أن يؤدّي انتهاء مهلة رفع السريّة المصرفيّة إلى انسحاب الشركة من هذه المهمّة بشكل تام، وفسخ عقدها الموقّع مع لبنان، تمامًا كما فعلت في مرحلة سابقة قبل إقرار قانون رفع السريّة المصرفيّة، نتيجة عرقلة حصولها على بيانات المصرف المركزي.

ومن البديهي أن تؤثّر تطوّرات ملف التدقيق الجنائي على مفاوضات لبنان مع صندوق النقد، وعلى الغطاء الذي تحتاجه الحكومة من المجتمع الدولي لخطتها الماليّة، خصوصًا أن التدقيق الشامل والمفصّل في ميزانيّات المصرف المركزي مثّل مطلبا أساسيا من مطالب صندوق النقد، بالإضافة إلى جهات أخرى معنيّة بالملف الاقتصادي اللبناني كالاتحاد الأوروبي وفرنسا وبريطانيا وألمانيا.
لكل هذه الأسباب، وبعد سنة كاملة من المراوحة وحرق الوقت، سيكون لبنان أمام منعطفات وتحديات مفصليّة على مستوى أزمته الماليّة خلال عام 2022.

وهذا النوع من التحديات والمنعطفات، سيصعب التعامل معه بغياب سلطة تنفيذيّة تملك رؤية متكاملة لكيفيّة الدخول في مرحلة التصحيح المالي، بالإضافة إلى الانسجام المطلوب للشروع بتطبيق هذه الرؤية وإحاطتها بالغطاء السياسي الذي تحتاجه محليًّا. وحتّى اللحظة، لا يوحي المشهد السياسي المحلّي بقدرة الحكومة على القيام بذلك.

المساهمون