لبنان ومسؤوليات ما بعد الحرب

24 ديسمبر 2024
لبنانيون يعودون إلى صور مع بدء الهدنة، 27 نوفمبر 2024 (عدنان عبيدي/رويترز)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواجه لبنان تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة بعد وقف إطلاق النار الهش، حيث تسعى الحكومة لإنشاء صندوق ائتماني مع البنك الدولي لجمع المساعدات، وقدّر المبلغ المطلوب لإعادة الإعمار بنحو عشرة مليارات دولار.

- تعتمد الحكومة على البنك الدولي لضمان الشفافية في استخدام المساعدات، مع توقع شروط تتعلق بالإصلاحات المالية، وسط مخاوف من شروط سياسية قد تؤخر إنشاء الصندوق، لكن هناك توافق محلي لتسهيل إعادة الإعمار.

- تتطلب إعادة الإعمار تمويلاً متنوعاً لتلبية احتياجات مثل تعويضات الإيواء، مع ضرورة تنسيق المساعدات وفق جدول زمني واضح، واستغلال الفائض المالي الحكومي لترميم البنية التحتية.

حتّى هذه اللحظة، ما زال وقف إطلاق النار في لبنان هشاً بفعل الخروقات الإسرائيليّة المتكرّرة. غير أنّ اللبنانيين تفاءلوا بتخطّي المرحلة الأصعب، التي شهدت - قبل 27 نوفمبر/تشرين الثاني- توسّع العدوان والتهجير واسع النطاق. وبعد انحسار رقعة الاعتداءات، بات لبنان أمام استحقاق التعامل مع التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للحرب، وهو ما يطرح أسئلة كبيرة حول دور الدولة والمنظمات الدولية، والعوامل السياسيّة المؤثرة في هذا المسار.

نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، الذي تولّى سابقاً مسؤوليّة التفاوض والتنسيق مع صندوق النقد الدولي، أشار مؤخّراً إلى أنّ لبنان بدأ بالفعل بمباحثات مع البنك الدولي لإنشاء صندوق ائتماني مخصّص لجمع المساعدات من المؤسّسات والدول المانحة. وفي التصريح نفسه، قدّر الشامي المبلغ المطلوب لإعادة الإعمار وتعافي الاقتصاد بنحو عشرة مليارات دولار على أقل تقدير. إلا أنّ الشامي لفت في الوقت نفسه إلى أنّ هذا الرقم يبقى مجرّد توقّعات أوليّة.

بهذا الشكل، يبدو من الواضح أنّ السلطة في لبنان اختارت ربط هذه المساعدات بآليّات الإنفاق والتمويل والتخطيط التي سيضعها وسيراقبها البنك الدولي. واللجوء إلى هذا الخيار كان الطريقة الوحيدة لكسب ثقة المانحين الخارجيين، الذين باتوا يربطون، منذ العام 2019، أي مساعدات بالبرامج الإصلاحيّة التي تضعها المؤسّسات الدولية، مثل البنك الدولي أو صندوق النقد. بل إن الغالبيّة الساحقة من القروض والمساعدات الخارجية كانت معلّقة قبل الحرب بانتظار دخول البلاد في برنامج تمويل واتفاق نهائي مع صندوق النقد.

على هذا الأساس، من المتوقع أن يفرض البنك الدولي بعض الشروط على هذا الصندوق الائتماني الذي أشار إليه الشامي، خصوصاً في ما يتعلّق بشفافيّة المناقصات وعمليّات التلزيم. كما يذهب البعض إلى الاعتقاد بأنّ البنك قد يفرض بعض الإصلاحات المتعلّقة بالنظام المالي اللبناني، الذي سيستوعب الهبات والعمليات النقدية المرتبطة بها. مع الإشارة إلى أنّ النظام المصرفي يعاني منذ أكثر من خمس سنوات من كتلة خسائر ضخمة، لم تُعالَج في إطار أي عمليّة إعادة هيكلة شاملة.

من حيث المبدأ، ستكون هذه الشروط والإصلاحات التقنيّة لمصلحة اللبنانيين المستفيدين من المساعدات الخارجيّة، بمعزل عن هويّة الجهة التي فرضتها. لكنّ بعض التحليلات بات يخشى اليوم من إمكانيّة إضافة شروط مستترة وغير معلنة، ذات طابع سياسي، وهو ما يمكن أن يؤخّر عمليّة إنشاء الصندوق أو استقدام المساعدات. أي بعبارة أوضح، ستصبح مساعدات إعادة الإعمار مرتبطة بتجاذبات القوى المحليّة في الداخل، وبعلاقاتها مع الجهات الدوليّة المؤثّرة في الملف اللبناني.

لكن بمعزل عن هذه الهواجس، ثمّة ما يشير إلى وجود إجماع محلّي على تسهيل المسار المتعلّق بإعادة الإعمار والإيواء، وما يرتبط به من آليّات لاستقدام المساعدات. فما يُعرف محلياً بالثنائي الشيعي، أي حزب الله وحركة أمل، يملكان مصلحة مباشرة بمعالجة تداعيات الحرب على بيئتهما الحاضنة في الضاحية وجنوب لبنان والبقاع الشمالي. وسائر القوى السياسيّة والطائفيّة، لا تملك بدورها أي مصلحة جديّة في تأخير البت بهذا الملف، نظراً إلى تداعياته على الأمن الاجتماعي والاستقرار الداخلي في عموم الأراضي اللبنانية.

وعند الحديث عن توقيت الحصول على الهبات والمساعدات الخارجيّة، ينبغي التمييز بين عدّة مسارات يفترض أن يجرى تمويلها، فيما يختلف توقيت الحاجة للتمويل بالنسبة لكل مسار. فعلى سبيل المثال، بالنسبة إلى إعادة إعمار المباني المدمّرة، من الممكن جدولة تمويل هذا المسار على دفعات عدّة، نظرًا إلى ارتباطه بعمليّة سيحتاج تنفيذها إلى وقت طويل نسبيًا. بل من الممكن أيضاً إعطاء بعض الوقت لوضع آليّات الرقابة والشفافيّة قبل المضي بهذا المسار.

لكن، في المقابل، ثمّة استحقاقات داهمة أو طارئة لا يمكن تأخير التعامل معها، ومنها مثلًا تعويضات الإيواء. وهذه التعويضات من المفترض أن تساعد أصحاب المنازل المتضرّرة أو المدمّرة على استئجار مساكن مؤقّتة، وشراء الأثاث لها، بانتظار إعادة بناء أو ترميم المساكن الأصليّة.

وبعكس مسار إعادة الإعمار، لا يملك لبنان ترف تأخير تأمين تعويضات الإيواء، إذ إنّ جزءاً كبيراً من الأسر المهجّرة حالياً لا يملك القدرة الماليّة على تسديد الكلفة المرتفعة للإيجارات. مع الإشارة إلى أنّ البنك الدولي قدّر عدد الوحدات السكنيّة المدمّرة أو المتضرّرة بنحو 100 ألف، فيما شهدت كلفة الإيجارات ارتفاعاً مضطرداً بسبب التهجير الناتج عن الحرب.

على هذا النحو، سيكون على الدولة اللبنانيّة مواءمة المساعدات والهبات الخارجيّة وفقًا لجدول زمني واضح، يأخذ بعين الاعتبارات المسارات المختلفة التي سيقتضي تمويلها. وعندها يمكن رصد المساعدات التي يمكن تأمينها بسرعة للحاجات الطارئة والداهمة، ومن ثم العمل على الآليّات الكفيلة باستقدام سائر المساعدات إلى الصندوق الائتماني الموعود. وبطبيعة الحال، من البديهي أن تُنسَّق كل هذه الخطّة مع البنك الدولي أولًا، طالما أنّ الحكومة تراهن على رقابته وإشرافه باعتبارهما شهادة ثقة أمام المجتمع الدولي.

إلى جانب الإشكاليّات المتعلّقة بالتمويل الخارجي، ثمّة أسئلة جديّة حول ماليّة الدولة العامّة، ومسؤوليّات الحكومة في الإنفاق على الحاجات المتّصلة بتحديات ما بعد الحرب. فقبل دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، كان ثمّة سجال سياسي حاد حول هذه المسألة بالذات. بل وكانت ثمّة قوى سياسيّة محليّة تطالب بالامتناع عن إنفاق الأموال العامّة على أي مسائل مرتبطة بأزمة النزوح أو المشاكل المعيشية المتصلة بالحرب.

وجهة النظر الإشكاليّة هذه رأت أنّ الدولة غير معنيّة بتحمّل هذه المسؤوليات، لكونها لم تكن ممسكة بقرار الحرب أصلاً. وفي هذا الجانب من النقاش، ثمّة إشارة واضحة إلى السجال الداخلي حول السلاح الموجود خارج إطار الدولة اللبنانيّة. كما يرى أصحاب وجهة النظر هذه أنّ الدولة لا تملك أساساً القدرة الماليّة للإنفاق من أجل التعامل مع أي حاجات مستجدة وطارئة.

يتجاهل هذا الموقف الغريب والمفاجئ دور الدولة بوصفها ضامناً وملاذاً لجميع مواطنيها، بمعزل عن أي سجال داخلي حول كيفيّة التعامل مع الأخطار الخارجيّة. ومن غير المفترض طبعاً أن يتحمّل الشعب اللبناني تجاهل الدولة بعضَ حاجاته الطارئة بسبب هذا النوع من الخلافات السياسيّة. ومعالجة بعض أضرار الحرب المتصلة بالبنية التحتيّة، في قطاعات الكهرباء والمياه والاتصالات، لا يمكن أن تنتظر تأمين المساعدات الخارجيّة، كما لا يمكن التعامل معها من خارج المؤسّسات الحكوميّة.

وأخيراً، يفتقر هذا الموقف أيضاً إلى الدقّة بخصوص تقييمه وضعيّةَ الماليّة العامّة. فخلال الأشهر العشرة الأولى من هذا العام، حقّقت الدولة اللبنانيّة فائضاً بقيمة 600 مليون دولار، بحسب أرقام وزارة الماليّة. وجرى تحقيق هذا الفائض بفعل السياسة التقشفيّة الصارمة التي تتبعها الحكومة بالتعاون مع مصرف لبنان.

ولهذا السبب، لا صحّة للكلام حول عدم امتلاك الدولة الموارد الماليّة المطلوبة للتعامل مع الحاجات الطارئة في مرحلة ما بعد الحرب. فالفوائض التي تحقّقها الميزانيّة العامّة اليوم قد لا تكفي للتعامل مع الحاجات الكبرى، مثل إعادة إعمار المباني المدمّرة، لكنّها يمكن أن تساعد في التعامل مع الحاجات الأكثر إلحاحاً، مثل ترميم البنية التحتيّة في بعض القطاعات الحيويّة. وهذا المسار من مسؤوليّات الدولة اللبنانيّة حتماً.

المساهمون