لبنان على أبواب عزلة مالية عن العالم

25 مايو 2023
الفساد ينخر في جسد الاقتصاد ويثير غضب الشارع اللبناني (محمود الزيات/ فرانس برس)
+ الخط -

بدأت تكرّ سُبحة التحركات الدولية بوجه لبنان، وحاكم مصرفه المركزي رياض سلامة، والبنوك المحلية، على وقع تقاعس فاضح من جانب السلطات اللبنانية، في ملاحقة المسؤولين عن أخطر انهيار مالي في تاريخ البلاد.

وانضمت ألمانيا، أول من أمس، إلى فرنسا، بتبليغ لبنان شفهياً بمذكرة اعتقال حاكم المصرف المركزي رياض سلامة بتهم فساد وتزوير وتأليف عصابة أشرار لتبييض الأموال والاختلاس، على أن تسلك المسار نفسه قريباً دول أوروبية أخرى، وفق المتوقع، تتقدمها لوكسمبورغ، وسط معلومات لـ"العربي الجديد" عن أن دائرة الإجراءات ستتسع لتشمل رجا؛ شقيق رياض سلامة، ومساعدته ماريان الحويك، وشخصيات مالية مصرفية عدة.

القائمة الرمادية
وعلى وقع التحرّك الألماني، نقلت وكالة رويترز، الثلاثاء، أنه من المرجّح وضع لبنان على القائمة الرمادية للدول الخاضعة لرقابة خاصة بسبب ممارسات غير مرضية لمنع غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وسيكون وضع لبنان على القائمة لمجموعة العمل الدولية "فاتف" ومقرها باريس، بمثابة ضربة موجعة لبلد يعاني من أشد الأزمات حدّة بدءاً منذ عام 2019، بحسب تقرير البنك الدولي، وربما إحدى أشد الأزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.

ورفض لبنان تسليم رياض سلامة إلى القضاء الفرنسي، بحجة أنه لا يسلّم رعاياه، علماً أن الحاكم يتمتع أيضاً بالجنسية الفرنسية، وأصبح مع قضائه في مرمى المراقبة الدولية، في طريقة تعاطيه مع هذه القرارات، التي قد تؤثر على علاقاته مع صندوق النقد الدولي والجهات المانحة التي يستجدي دعمها.

وعلى الرغم من التحذيرات الاقتصادية لخطورة بقاء سلامة في منصبه حتى يوليو/ تموز المقبل، نقدياً واقتصادياً، يواصل مجلس الوزراء رفض استخدام صلاحيته بإقالة "الحاكم"، بعد قراره الاثنين ترك الملف بيد القضاء اللبناني، بذريعة الحفاظ على ما تبقى من مؤسسات الدولة، علماً أن تداعيات القرارات الدولية بحق سلامة بدأت تسلك طريقها، منها ما تردّد أخيراً عن اتجاه جدّي لبنوك مراسلة لقطع علاقاتها مع مصارف لبنانية، وبحسب معلومات "العربي الجديد"، فقد أبلغ بنك ألماني كبير بنوكاً محلية بخطوته هذه.

تأييد إطاحة سلامة
يؤكد وزير العدل اللبناني في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري لـ"العربي الجديد" أنه "من الداعمين لاستقالة أو تنحي أو إزاحة (إقالة) حاكم البنك المركزي رياض سلامة، باعتبار أن الأمور لا يمكن أن تستمرّ على هذا الشكل، ومصداقية الدولة والسلطة ككلّ باتت على المحكِّ".

وشدد خوري على أن "القضاء اللبناني سيقوم بواجباته كاملاً، موضحاً أنه رفض وضع الكرة في ملعب القضاء بعد صدور مذكرة التوقيف الفرنسية بحق سلامة، وطالب بالتعاطي مع الملف انطلاقاً من هذه المذكرة كي يُبنى على أساسها المقتضى، وهو ما أعلنه يوم الاثنين عقب اللقاء التشاوري الوزاري الذي عقد في مقرّ رئاسة الوزراء".

وعقد رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي لقاءً تشاورياً مع الوزراء بعد ظهر الاثنين الماضي، بحث ملف سلامة، بعد تسلّم لبنان مذكرة من الإنتربول بتوقيفه، إثر ادعاء القضاء الفرنسي عليه بتهم الاختلاس وتبييض الأموال.
وتقرّر بعد الاجتماع، كما سرّبت أوساط وزارية، ترك الملف للقضاء كي يأخذ مجراه، مع إقفال الباب أمام إقالته من جانب مجلس الوزراء، صاحب الصلاحية باتخاذ هذا الإجراء، وذلك بذريعة الحفاظ على مؤسسات الدولة، علماً أن أصواتاً نيابية ووزارية خرجت مطالبة بإقالته أو تنحيه.

وقال أحد الوزراء المشاركين في اللقاء (فضّل عدم الكشف عن اسمه) لـ"العربي الجديد" إن "اللقاء خُصِّصَ لبحث قضية سلامة، والمذكرة الصادرة بحقه، وتداعيات القرار على لبنان من الجوانب كافة، وانقسمت الآراء بين مؤيد لإقالته ورافض لها، بالنظر إلى إيجابيات وسلبيات الخطوة، وحصل بعض البلبلة داخل الاجتماع مع من يفضل أن يتنحّى بنفسه ويستقيل".

الانعزال عن الاقتصاد العالمي
في السياق، تقول المحامية في "رابطة المودعين" دينا أبو زور، لـ"العربي الجديد"، إن وضع لبنان على اللائحة الرمادية يعني انعزاله عن الاقتصاد العالمي والنظام المالي العالمي والبنوك المراسلة التي يزيد فقدانها الثقة بلبنان، وتدرس جدياً قطع علاقاتها معه، لتصبح البنوك اللبنانية بمثابة "زومبي"، ويصبح الاعتماد على الاقتصاد الكاش، وهذا كله له ارتداداته على مجمل عمليات الاستيراد والتصدير، بما في ذلك اعتمادات البنزين وغيرها من المواد والسلع الحياتية الأساسية.

وتلفت أبو زور إلى أن تأثير ما يحصل خطير على اقتصاد ومالية الدولة وهو مباشر، وسيزيد من تدحرج لبنان نحو الانهيار، وقد أصبحت المصارف اللبنانية، المتوقفة أصلاً عن الدفع، أكثر مراقَبة من قبل البنوك المراسلة الأجنبية التي تدرس ملفاتها، من دون وجود أي مؤشرات تشجيعية لها للاستمرار في علاقاتها وتعاملاتها، وقد أتى قرار مجموعة العمل الدولية بانتظار صدوره رسمياً، ليكون بمثابة ضربة موجعة تظهر وتؤكد أن لبنان ملاذ آمن للجرائم المالية. وتشير أبو زور إلى أن الاستنابات القضائية ليست خطوة مفاجئة، بل متوقعة، وننتظر أن تتسع رقعتها أيضاً لتصدر عن بلدان أوروبية أخرى، خصوصاً بعد التهرب اللبناني الفاضح في محاسبة سلامة، الذي بدوره يختبئ خلف قناع المظلومية، ويوجه سهامه نحو القاضية الفرنسية أود بوروسي، بجملة اتهامات.

مماطلة السلطة
من جانبها، تقول الباحثة في القانون الدولي والجرائم المالية والاقتصادية محاسن مرسل لـ"العربي الجديد" إن التعاطي بملف سلامة أثبت خضوع وخنوع الدولة اللبنانية لعمليات التشبيك التي حصلت بين الطبقة الحاكمة والمصرفيين، ومنهم حاكم البنك المركزي.
وتشير مرسل إلى أن الدولة اللبنانية والحكومة مجتمعة أثبتت المراوغة في التعاطي مع ملف سلامة، وتواصل تمييعها قضيته رغم أنها حاولت الظهور بمظهر المتعاون مع الوفد القضائي الأوروبي، وطريقة تعاطي لبنان مع القضاء الفرنسي، بغض النظر عن الذرائع، ستكون نقطة سوداء في سجله القضائي وكيفية تعاطيه مع الاتفاقيات الدولية الموقع عليها، منها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.
وترى مرسل أن الدولة اللبنانية تحاول أن تكسب الوقت لحين انتهاء ولاية سلامة، الذي في مقابلته الأخيرة أكد أنه لن يستقيل.
وتستغرب مرسل طريقة تعاطي لبنان مع قضية سلامة، فحتى لو رفض تسليمه للقضاء الفرنسي، بحجة أنه لا يسلم رعاياه، لكنه يبقيه في موقعه رغم كل القرارات الدولية الصادرة بحقه، ورغم الادعاء عليه أيضاً لبنانياً، بتبييض الأموال والتزوير واستعمال المزور والاختلاس، وهذه وحدها كافية لكف يده.
من ناحية ثانية، ترى مرسل أن مجموعة العمل الدولية تدرس المؤشرات ومدى التزام الدولة اللبنانية بمعايير المحاسبة والمساءلة التي من شأنها أن تؤدي إلى مكافحة آفة وجرم غسل الأموال، الذي يؤمن مساحة واسعة للاقتصاد الموازي، وهي سبق أن أعطت فترة سماح للدولة اللبنانية لمراقبة مدى التزامها بالإجراءات، وللأسف تبين أنها لا تكافح غسيل الأموال، لا بل غاصت أكثر في الاقتصاد الكاش، الذي بلغ بحسب تقرير للبنك الدولي 9.9 مليارات دولار، أي بحوالي نصف إجمالي الناتج المحلي، والرقم من المتوقع أنه أصبح أعلى بكثير.

علم "العربي الجديد" أن بنكاً ألمانياً مراسلاً أبلغ بنوكاً لبنانية بتعذّر استمرار العمل معها


وترى مرسل أن من تداعيات إدراج لبنان على اللائحة الرمادية اتهامه بأنه أصبح مساحة لغسل الأموال، ووقف التدفقات المالية الشرعية من ودائع واستثمارات، وارتفاع أخطار تعامل المصارف المراسلة مع تلك المحلية، ما يعني قطع علاقات العديد منها ووقف التعامل مع المصارف المحلية، عدا عن إقرار الدولة اللبنانية بأنها عجزت عن القيام بإصلاحات للخروج من الآزمة، وهذا مسمار آخر في نعش التفاهم مع صندوق النقد الدولي.

بنك ألماني يقطع العلاقات
على صعيد متصل، علم "العربي الجديد" أن بنكاً ألمانياً مراسلاً أبلغ بنوكاً لبنانية بتعذّر استمرار العمل معها، علماً أنه كان أقدم عام 2017 على إقفال نحو 10 حسابات مصرفية مراسلة لديه تخصّ مصارف لبنانية، وهو يعد من البنوك الكبرى والمهمة جداً، وله مكتب في بيروت. في السياق هذا، يقول الخبير الاقتصادي والمصرفي نسيب غبريل، لـ"العربي الجديد": "يجب الانتظار وعدم استباق الأمور على صعيد قرارات المصارف المراسلة". ويلفت إلى ضرورة التأكد من هذه الأخبار بالنظر إلى أن الموضوع حسّاس جداً ولا يحتمل المزايدات. ويشير غبريل إلى أن تعاطي المصارف المراسلة مع المصارف في الأسواق الناشئة تغيّر إجمالاً، وخصوصاً منذ اندلاع أزمة كورونا ربطاً بتراجع حجم العمليات من خلال المصارف المراسلة بسبب التباطؤ الاقتصادي وتباطؤ الحركة التجارية الدولية والاستثمارات.

ويلفت غبريل إلى أن التعاملات عادت إجمالاً مع المصارف المراسلة في الأسواق الناشئة بعد انتهاء أزمة كورونا، باستثناء لبنان الذي لم تعد فيه إلى ما كانت عليه قبل ذلك، وعادة المصارف المراسلة تدرس العمليات والتداولات والتحويلات والحسابات لتقرر على أساسها الاستمرار أو عدم الاستمرار.
ويعتبر غبريل أن المصارف المراسلة على تواصل دائم مع المصارف اللبنانية، وهي على دراية بما يحصل، وتتريّث في قراراتها بانتظار المستجدات على الساحة اللبنانية، ولا سيما على صعيد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، كما أنها لا تقوم برد فعل سريع على تصريحات أو أخبار من هنا وهناك، بل تستند إلى معطيات حسية ميدانية لاتخاذ قرارها. ويلفت أيضاً الخبير الاقتصادي والمصرفي إلى أن مصارف لبنانية عدة هي التي أقفلت حساباتها في المصارف المراسلة، في ظل شح السيولة بالعملات الأجنبية، وذلك لتخفيض الكلفة عليها.

تبعاً لذلك، يرى غبريل أن المصارف المراسلة الأجنبية تراقب حجم التداول، والتكاليف التي تنفقها، لتتخذ قرارها، فالموضوع بمثابة ربح وخسارة، لافتاً إلى أن عدد المصارف المراسلة الذي تتعامل معه المصارف اللبنانية يتراوح بين 25 و30 مصرفاً، على صعيد أميركا الشمالية وأوروبا الغربية. ويختصر غبريل وضع القطاع المصرفي اليوم بأنه في حالة انتظار الإصلاحات وإعادة الثقة، والاتفاق النهائي مع صندوق النقد.

المساهمون