لا رواتب في ليبيا... أزمة المصرف المركزي تتسع

02 سبتمبر 2024
مواطنون أمام أحد البنوك في طرابلس لإجراء معاملاتهم 27 مارس 2016 (فرانس برس)
+ الخط -

طاول الصراع على مصرف ليبيا المركزي، جيوب المواطنين سريعاً، بعدما وجد الكثيرون أنفسهم في قلب أزمة سيولة نقدية في البنوك، ما يحجب رواتب نحو 2.5 مليون موظف على الرغم من إعلان المصرف المركزي، مطلع الأسبوع، أنه باشر صرف رواتب أغسطس/آب الماضي، اعتباراً من أمس الأحد.

وفوجئ موظفون بأن رواتبهم وصلت أرقاماً فقط إلى البنوك، في حين لم تكن هناك سيولة لصرفها، ما أثار سخطاً في أوساط الكثيرين الذين عبروا عن استيائهم من الصراع الدائر بين الطرفين المتنافسين على السلطة في الشرق والغرب، من أجل السيطرة على المصرف المركزي وموارد البلاد النفطية.

وقالت مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد" إن حالة الانقسام امتدت إلى البنوك نفسها، مشيرة إلى أن بعضها يؤيد الإدارة الجديدة للمصرف المركزي برئاسة محمد عبد السلام الشكري المكلفة من المجلس الرئاسي في طرابلس، والبعض الآخر من البنوك يعارض ذلك ويتمسك ببقاء المحافظ المقال الصديق الكبير، الذي يحظى بثقة مجلس النواب في الشرق.

وأضافت المصادر: "لكل من طرفي الصراع حلفاء داخل بعض البنوك.. المحافظ المقال الصديق الكبير وداعموه في الشرق لديهم حلفاء في بنوك تجارية، وكذلك رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي لديهما أيضاً حلفاء في بنوك أخرى.. هناك حالة استقطاب طاولت المنظومة المصرفية، وفي هذه الأثناء تتصاعد أزمة سيولة نقدية جزء منها حقيقي والآخر مفتعل".

وأشارت إلى أن أزمة صرف الرواتب تختبر حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي، لافتة إلى أن البنوك لم تصرف الرواتب كما كان مقرراً، أمس، وربما تتضح الأمور اليوم الاثنين، وأنّ أوامر صدرت من الحكومة في طرابلس للبنوك التجارية بصرف الرواتب في شكل سلف تسددها الحكومة لاحقاً بضمانة وزارة المالية.

ومنذ منتصف أغسطس الماضي، تعيش ليبيا توترات على خلفية أزمة إصدار المجلس الرئاسي قراراً بعزل محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير (رفض ترك منصبه) وتعيين محمد الشكري مكانه، وهو الإجراء الذي رفضه مجلسا النواب والدولة لصدوره من جهة "غير مختصة" على حد وصفهما. ويشرف المصرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة، ليُعاد بعد ذلك توزيعها بين المناطق المختلفة، بما فيها الشرق.

وأعلنت الحكومة المنبثقة من مجلس النواب، ومقرها بنغازي، الأسبوع الماضي، "حالة القوة القاهرة على جميع الحقول والموانئ النفطية، وإيقاف إنتاج النفط وتصديره إلى حين إشعار آخر"، احتجاجاً على إقالة طرابلس الكبير، وتكليف مجلس إدارة جديدة لتولي مهمات المصرف المركزي. وتسيطر حكومة مجلس النواب المدعومة من مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر على حقول تشكل إنتاج ليبيا النفطي بالكامل تقريباً.

المواطنون رهائن وسط الصراع

ووسط هذا الصراع يجد المواطنون أنفسهم رهائن الضغوط المتبادلة بين المتنافسين على السلطة. وقال عبد السلام الورفلي (موظف في أحد القطاعات الحكومية) إنه توجه إلى فرع مصرف الجمهورية للاستفسار عن راتبه لشهر أغسطس، وتم إبلاغه بأن الراتب وصل إلى حسابه البنكي، لكن لا توجد سيولة نقدية متاحة لصرفه.

أضاف الورفلي لـ"العربي الجديد" أن الراتب البالغ 1500 دينار (312.5 دولاراً) وصل رقماً فقط في حسابه، متسائلاً: "كيف أعيش وأوفر مصروفات أسرتي بينما لا يوجد راتب، وكذلك عمليات الشراء ببطاقات الدفع الإلكترونية متوقفة؟".

في السياق، قال علي المرادي (موظف في قطاع الشؤون الاجتماعية) لـ"العربي الجديد" إن "كشوف الرواتب وصلت من دون تأخير وهو خبر مفرح، لكن الواقع شيء محبط فلا سيولة لصرف الرواتب".

وكانت إدارة المصرف المركزي المكلفة من المجلس الرئاسي، قد أعلنت في بيان نشرته على الموقع الإلكتروني للمصرف، السبت الماضي، مباشرتها تنفيذ صرف رواتب المواطنين عن شهر أغسطس لجميع القطاعات العامة بالدولة اعتباراً من (أمس) الأحد، مشيرة إلى أن هذه الخطوة جاءت "بعد أن بدأت كل إدارات المصرف وتيرتها الاعتيادية في العمل، وأعادت تشغيل كل الأنظمة التي تم إيقافها من قبل الإدارة السابقة".

وقال المحلل الاقتصادي، طارق الصرماني، لـ"العربي الجديد": إن العديد من الموظفين سيجدون صعوبة في تلبية احتياجاتهم اليومية في ظل عدم القدرة على سحب أموالهم من البنوك، مما قد يؤثر سلباً على النشاط الاقتصادي عامة، حيث يعتمد الكثير من التجار وأصحاب الأعمال الصغيرة على السيولة النقدية في تسيير أعمالهم.

بدوره، قال الخبير الاقتصادي عبد الهادي الأسود لـ "العربي الجديد"، إن إدارة مصرف ليبيا المركزي الجديدة تتحمل مسؤولية توفير السيولة النقدية للبنوك، داعياً إلى وضع حلول عاجلة لأزمة الرواتب، ولا سيما أن المواطن يواجه يومياً تحديات اقتصادية، وينبغي للحكومة تحسين وضعه المعيشي وضمان حصوله على حقوقه الأساسية، بما في ذلك القدرة على صرف رواتبه.

ويبلغ عدد العاملين في القطاع العام نحو 2.5 مليون موظف، بما يعادل 31% من سكان ليبيا. ويبلغ الحد الأدنى للأجور 900 دينار (حوالي 187 دولاراً). وتشير بيانات مصرف ليبيا المركزي إلى أن إجمالي مخصصات الرواتب يبلغ نحو 5.21 مليارات دينار شهرياً، لافتة إلى أنه جرى إنفاق 36.5 مليار دينار على بند الرواتب خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري.

وتأتي أزمة الرواتب في وقت يواجه فيه القطاع المصرفي مشكلات في توفير السيولة الكافية للجمهور، خاصة في ظل حالة عدم الاستقرار الأمنية والسياسية، وضعف البنية التحتية للدفع الإلكتروني والمعاملات المصرفية الرقمية، مما يدفع الناس إلى الاحتفاظ بالنقد خارج البنوك.

أزمة الرواتب ستشل الاقتصاد

وإذا طال أمد الصراع من أجل السيطرة على المصرف المركزي، فإن جميع رواتب موظفي الدولة، والتحويلات بين البنوك، وخطابات الاعتماد اللازمة للواردات ستصبح مستحيلة، مما سيؤدي إلى تجميد الاقتصاد وتجارة ليبيا مع الدول الأخرى. وتتسع قائمة المصارف التجارية التي أعلنت توقف خدماتها المرتبطة بالتعاملات الإلكترونية مع المصرف المركزي، بما في ذلك خدمات المقاصة، ومنظومة النقد الأجنبي، وشراء العملة الأجنبية، وقبول الصكوك، وتنفيذ الحوالات المحلية، وتمرير الاعتمادات والحوالات الخارجية "سويفت".

وقالت وزارة الخارجية الأميركية في بيان، السبت الماضي، إن حالة عدم اليقين الناجم عن الإجراءات الليبية الأحادية الجانب أدت إلى قيام البنوك الأميركية والدولية بإعادة تقييم علاقاتها بمصرف ليبيا المركزي، بل في بعض الحالات وقف المعاملات المالية حتى يكون هناك مزيد من الوضوح بشأن القيادة الشرعية للبنك المركزي.

وقال المحلل المالي صبري ضوء، إن النزاع الحالي حول إدارة مصرف ليبيا المركزي يؤدي إلى صعوبة في تحويل الأموال وإدارة المال العام بشكل صحيح. وأوضح ضوء لـ"العربي الجديد" أن ليبيا تعتمد بشكل أساسي على المصرف الليبي الخارجي في التحويلات الخارجية والاعتمادات المستندية، وأن أي رفع لمستوى المخاطرة سيضع الاقتصاد الليبي في مأزق، خاصة أن ليبيا تعتمد على اقتصاد مفتوح مرتبط بالعالم الخارجي.

وكان المصرف الليبي الخارجي قد أصدر بياناً، الأسبوع الماضي، حذر فيه من التداعيات الخطيرة للتطورات الحالية في ليبيا، مشيراً إلى أن بنوك مراسلة ومؤسسات مالية خارجية استفسرت حول الوضع الحالي، وأعربت عن مخاوفها من فقدان الثقة في القطاع المصرفي الليبي. ويُعد المصرف الليبي الخارجي البوابة المالية الرئيسية للقطاع المصرفي الليبي والمسؤول عن إدارة إيرادات النفط لحسابات المؤسسة الوطنية للنفط.

وأكد المصرف أن أي تصنيف سلبي أو إجراءات عقابية من المؤسسات المالية الدولية، بما في ذلك وزارة الخزانة الأميركية، قد يؤدي إلى عزل النظام المصرفي الليبي عن الأسواق العالمية. وأشار إلى أن مثل هذه الإجراءات قد تعرّض أموال الدولة الليبية لمخاطر قانونية جسيمة، مثل الحجوزات والتجميد، نتيجة الإخلال بمبدأ استقلالية المصرف المركزي. وأكد أنه في حال وقوع تلك الإجراءات، لن يتمكن من الوفاء بالتزاماته تجاه الزبائن والشركاء، ما سيترتب عليه مسؤوليات قانونية ومالية جسيمة.

وقال الخبير الاقتصادي، محمد الشيباني، لـ"العربي الجديد": إن تشكيل مجلس إدارة جديد قد يعيد التوازن إلى إدارة المصرف، شريطة توافق الأطراف السياسية على الأسماء المرشحة، مما يعيد الأمل إلى تحقيق الاستقرار النقدي والمالي في البلاد.

وفي محاولة لاحتواء الأزمة، أطلقت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا نهاية أغسطس الماضي، مبادرة لعقد اجتماع طارئ تحضره الأطراف المعنية بأزمة مصرف ليبيا المركزي، بهدف التوصل إلى توافق. واعتبرت السفارة الأميركية في ليبيا أن هذه المبادرة "تمهد الطريق لحل الأزمة المحيطة بالمصرف المركزي"، وحثت جميع الأطراف على اغتنام هذه الفرصة. وبموجب قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإن البنك المركزي في طرابلس فقط هو المخول بالسيطرة على عائدات النفط وصرفها.

أزمة وقود وانقطاع طويل للكهرباء

وبجانب أزمة الرواتب التي تهدد معيشة 2.5 مليون أسرة، تشهد البلاد أزمة طاقة حادة، وسط الإغلاقات الأخيرة للحقول النفطية، التي سبّبت فقدان البلاد نحو 63% من إنتاجها، إذ هوى الإنتاج من 1.2 مليون برميل يومياً في يوليو/تموز الماضي إلى 590 ألف برميل حالياً، وفقاً لبيانات مؤسسة النفط. وتعتمد ليبيا كثيراً على نظام "مقايضة النفط"، الذي بدأ في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، حيث يتم تصدير النفط مقابل الحصول على البنزين والوقود لتلبية احتياجات الشركة العامة للكهرباء واحتياجات السوق المحلي من البنزين والديزل.

ومع استمرار تراجع الإنتاج، تواجه البلاد أزمة وقود حادة، إذ تعاني معظم المناطق انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة تصل أحياناً إلى عشر ساعات يومياً في بعض المناطق، وسبع ساعات في العاصمة طرابلس. وأكد المحلل في قطاع النفط حسن الصديق لـ"العربي الجديد" أن المصافي المحلية تغطي فقط 30% من احتياجات البلاد من الوقود، في حين يُستورد 70% عبر مقايضة النفط بالمحروقات.

وقال الصديق إن استمرار إغلاق الحقول النفطية سيضع البلاد في مأزق كبير، إذ قد ينخفض الإنتاج إلى مستويات متدنية تصل إلى 250 ألف برميل يومياً. وحذر من أن التعاقدات لشهر أغسطس الماضي قد تكفي حتى الأسبوع الأول من سبتمبر/أيلول فقط، وبعد ذلك قد تواجه البلاد أزمة حقيقية في المحروقات، مما سيؤثر تأثيراً مباشراً على توليد الكهرباء.

وفي ظل هذه الأزمة، يعاني المواطنون نقصاً حادّاً في الوقود، مما يضطرهم إلى الانتظار في طوابير طويلة تصل إلى 12 ساعة للحصول على البنزين. ويضطر البعض إلى تخزين الوقود في قوارير تحسباً لاستمرار الأزمة، مما يزيد من تعقيد الوضع.

المساهمون