دعونا نضع عدة حقائق عن البنوك المصرية، خاصة هؤلاء الذين باتوا يحملون وحدات القطاع المصرفي ما لا تطيق، وبدلا من الإشادة بدورها في توفير السيولة النقدية للدولة والقطاع الخاص، وحماية أموال المودعين، ومساعدة المؤسسات العامة على مواجهة غلاء الأسعار والتضخم، راح البعض يهيل عليها التراب، ويشكك في دورها، وكأنها مسؤولة عن الأزمة العميقة التي تواجه الاقتصاد حاليا، أو أنها تحاول ممارسة سياسة الخداع على المدخرين.
الحقيقة الأولى هي أن البنوك ليست مسؤولة عن أزمة العملة الحالية وتهاوي قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار، أو نشوء ظاهرة السوق السوداء الخطيرة التي أحدثت اضطرابات عنيفة في سوق الصرف الأجنبي.
الحكومة هي المسؤول الأول والأخير عن تلك الممارسات الخطيرة التي يشهدها سوق الصرف
وليست مسؤولة كذلك عن تنامي ظاهرة اكتناز الدولار والذهب والعملات الأجنبية من قبل المدخرين وهي الظاهرة المعروفة باسم "الدولرة"، وليست مسؤولة كذلك عن اندفاع بعض المودعين نحو الاحتفاظ بأموالهم في المنازل وتحت البلاطة، وليست مسؤولة عن فقدان ثقة المواطن في المؤسسات الرسمية.
بل الحكومة هي المسؤول الأول والأخير عن تلك الممارسات الخطيرة التي يشهدها سوق الصرف، حيث فتحت الاقتراض الخارجي دون قيود، وأساءت استخدام المال العام، وراحت تنفق القروض الدولارية على مشروعات لا تدر عوائد بالنقد الأجنبي، وأطلقت مشروعات كبرى لا تمثل قيمة مضافة للاقتصاد وليس أوانها، أو تمثل عبئا على المركز المالي للدولة واحتياطي النقد الأجنبي كما حدث مع تفريعة قناة السويس التي التهمت 8 مليارات دولار، وكذا مشروعات القطار الفاخر والعاصمة الإدارية وبناء القصور والمقار الحكومية وغيرها.
الحقيقة الثانية هي أن البنوك حائط الصد أمام أي خطر اقتصادي يهدد الدولة عبر توافر سيولة ضخمة لديها من الجنيه المصري، وكذا بالعملات الأجنبية، وقدراتها على حشد الموارد المالية في وقت قصير وكسب ثقة المدخرين.
الحقيقة الثالثة هي أن البنوك هي من توفر التمويل اللازم بالنقد الأجنبي لتمويل واردات مصر من السلع الأساسية مثل الحبوب كالقمح والذرة، والسلع الغذائية كالسكر والأرز والشاي، أو الأدوية وحليب الأطفال، أو المشتقات البترولية من بنزين وسولار وغاز طبيعي.
لولا أموال المصارف لتأخرت الحكومة في سداد رواتب وأجور موظفي الدولة ودعم السلع
الحقيقة الرابعة هي أنه لا يوجد مودع واحد توجه للبنك الذي يتعامل معه طالبا سحب وديعته، ووجد رفضا من البنك، قد يحدث تأخير في إجراءات السحب، وهذا أمر طبيعي يحدث في كل دول العالم، فالبنوك لا تحتفظ بسيولة ضخمة في فروعها، ولذا قد تطلب من المودع مهلة يوم أو أيام في حال الودائع الدولارية.
الحقيقة الخامسة هي أن البنوك هي المقرض الأول للحكومة، وأنه لولا أموال البنوك لتأخرت الحكومة في سداد رواتب وأجور موظفي الدولة ودعم السلع الرئيسية وتنفيذ مشروعات البنية التحتية.
الحقيقة السادسة هي أنه لا يجب التعامل مع البنوك على أنها مؤسسات زكاة تقدم الصدقات والأموال المجانية للمحتاجين، بل هي مؤسسات مالية تدير أموال المدخرين باحترافية شديدة وتحقق عوائد لأصحاب المدخرات، ولديها جهات تحاسبها في حال التعثر وتردي الخدمة المقدمة للعملاء.
الحقيقة السابعة تتعلق بالدور الحيوي الذي يقوم به القطاع المصرفي في حماية أموال المودعين، وللتذكير هنا فإن هذه الأموال تمت المحافظة عليها حتى في ذروة الأزمات الاقتصادية والمالية التي عانت منها مصر، وكلنا نذكر كيف أن نحو 10 بنوك مصرية أفلست في سنوات سابقة ولم يفقد مودع جنيها واحدا من أمواله، بل لم يشعر المودعون أصلا بإفلاس البنك الذي يتعامل معه.
ليس مطلوباً من البنوك إصدار شهادات ادخار وطرح أوعية بعائد مرتفع يبلغ 25%
الحقيقة الثامنة هي أن البنوك تلعب دورا كبيرا في تمويل مشروعات التنمية الاقتصادية والمشروعات الصناعية والتجارية والتصديرية وغيرها. أتحدث هنا بشكل خاص عن البنوك التابعة للدولة سواء العامة مثل الأهلي المصري ومصر والقاهرة، أو المتخصصة مثل العقاري المصري العربي أو التنمية الصناعية والتعمير والإسكان. وهذه النوعية من المشروعات هي من توفر فرص العمل وتزيد الإنتاج المحلي وترفع قدرة الدولة التصديرية وتساعد في خطط الحد من الواردات.
الحقيقة التاسعة هي أنه ليس مطلوبا من البنوك إصدار شهادات ادخار وطرح أوعية بعائد مرتفع يبلغ 25%، لأن هذه النسبة المرتفعة تكبدها خسائر وأعباء فادحة تتحملها من أموالها وإيراداتها، ومن حقها أن ترفض أي ضغوط سواء من الحكومة أو البنك المركزي في هذا الشأن، وإنما تقوم بطرح الشهادات مرتفعة العائد في إطار مساعدة الدولة على احتواء التضخم المرتفع والحد من ظاهرة "الدولرة"، وأحيانا من باب المسؤولية الاجتماعية، كما يحدث مع أصحاب المعاشات.
الحقيقة العاشرة هي أن القطاع المصرفي هو الأقل فسادا داخل المجتمع والأقل تعثرا والأكثر تنظيما والتزاما بالقوانين، فلم نسمع عن حالات رشى جماعية داخل البنوك لمنح قروض، أو سطو جماعي على أموال مودعين. صحيح أنه قد يكون الأعلى تعقيدا وطلبا للضمانات لكن هذا يحدث في العديد من بنوك العالم، لا أنكر وجود حالات فساد فردية داخل البنوك لكنها الأقل بين المؤسسات المالية في الدولة.
البنوك المصرية قطاع حساس ويجب على قياداتها الابتعاد عن العمل السياسي والحزبي
الحقيقة الحادية عشر هي أنه لا يجب مقارنة القطاع المصرفي المصري بنظيره اللبناني، فبنوك مصر لا تزال تحقق أرباحا وإيرادات ضخمة، أما بنوك لبنان فإن خسائرها تجاوزت 130 مليار دولار، وهناك محافظ للبنك المركزي اللبناني، رياض سلامة، تجري محاكمته حاليا بتهم تتعلق بغسل وتهريب أموال وشبهات فساد.
الحقيقة الأخيرة هي أن البنوك المصرية قطاع حساس، تتأثر سلبا بالشائعات والحملات المضادة، ولذا يجب إبعادها عن أي مناكفات سياسية، كما يجب على قيادات البنوك الابتعاد عن العمل السياسي والحزبي، أو أن يتم الدفع بهم للوقوف أمام فوهة أي مدفع، فالنار ستحرقهم إن فعلوا ذلك، وقد تحرق مؤسساتهم.