كيف اقترب الاقتصاد الأميركي من الهبوط الآمن؟

04 سبتمبر 2024
‏رئيس البنك الفيدرالي الأميركي جيروم باول، واشنطن 31 ‏يوليو/تموز 2024( Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، واجه الاقتصاد الأميركي "الركود التضخمي"، حيث رفع بول فولكر أسعار الفائدة بشكل حاد، مما أدى إلى ركود اقتصادي وتراجع التضخم.
- جيروم باول، رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي الحالي، رفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم الذي بلغ ذروته عند 9.5% في 2022، وانخفض إلى 3% بحلول الربع الثاني من العام الحالي، مع استمرار نمو الاقتصاد.
- السياسات المالية الأميركية وزعت أموالاً محفزة خلال 2020 و2021، مما ساعد في تخفيف الأثر السلبي لارتفاع الفائدة، ويشير إلى استقرار اقتصادي محتمل قريب.

في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، عانى الاقتصاد الأميركي من تضخم غير مسبوق، ‏صحبته معدلات بطالة مرتفعة، ‏فيما عرف بـ"الركود التضخمي". وللتعامل مع هذه المشكلة، قام بول فولكر، رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي ‏وقتها برفع أسعار الفائدة بشكل حاد ومفاجئ. وأدى الارتفاع الكبير في أسعار الفائدة إلى زيادة تكاليف الاقتراض بشكل كبير، مما تسبب في تباطؤ النمو الاقتصادي ودخول الاقتصاد في حالة ركود خلال عامي 1981 و1982. وترتب ‏على ذلك ارتفاع معدلات البطالة، وأثر على أسواق المال والعقارات.

‏انخدع فولكر في أول الأمر، حيث تصور زوال خطر التضخم فسارع بخفض معدلات الفائدة، الأمر الذي سبب عودة ارتفاع الأسعار من جديد، قبل أن ينجح في تطبيق سياسة نقدية صارمة ومستمرة، ‏سمحت بتراجع التضخم إلى مستويات آمنة، مما مكنه من تخفيض الفائدة دون المخاطرة بعودة التضخم. وكانت تجربة فولكر عبئاً ثقيلاً على جيروم باول، رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي الحالي، حيث عطلته عن تخفيض أسعار الفائدة في وقت مبكر، خوفا من العودة لنموذج ‏الثمانينيات ‏الفاشل.

لكن يبدو أن البنك المركزي الأكبر في العالم ‏قد عثر على ما كان يبحث عنه، حيث أشار جيروم باول، قبل أسبوعين تقريبا إلى أن "الوقت قد حان لتعديل السياسة"، مؤكدا أن "الهبوط الآمن" قد أصبح في متناول اليد، ‏بعد أن اقترب التضخم من مستواه المستهدف، وبقي الاقتصاد الأكبر في العالم بعيدا عن الركود.

وعندما ترفع البنوك المركزية أسعار الفائدة ‏بصورة حادة، يتبع ذلك عادة البؤس الاقتصادي، حيث يكافح الناس لسداد ديونهم، ويصبح الاقتراض من أجل الاستثمار مكلفا للغاية بالنسبة للشركات. ‏وخلال السنوات الأربع الأخيرة، ارتفع متوسط سعر الفائدة في ‏الاقتصادات الكبرى بمقدار خمس نقاط مئوية (5%).

ساعدت تكاليف الاقتراض المرتفعة في احتواء التضخم الأميركي، ‏الذي سجل في ‏ذروته ‏معدل 9.5% على أساس سنوي في منتصف عام 2022. وبحلول الربع الثاني من العامل الحالي، كان التضخم قريبا من 3%، وهو مستمر في الانخفاض منذ ذلك الحين. ولا توجد دلائل تذكر على أن ارتفاعات الأسعار ستتسارع مرة أخرى، مما يعني أن مسؤولي البنك الفيدرالي يمكنهم الاسترخاء مع توجههم لتخفيف السياسة النقدية.

ومع انخفاض التضخم، ظل معدل النمو الاقتصادي بأميركا عند مستويات مقبولة، ‏وسجل في الربع الثاني من العام معدل نمو 2.8% على أساس سنوي. وتقول ‏مجلة "ذي إيكونوميست" إنه على الرغم من أن التعريف الموحد للركود هو تسجيل معدل نمو سلبي لربعين متتاليين، فإن الركود الحقيقي يُعرف ببساطة عند رؤيته، حين يفقد الملايين وظائفهم، وتنخفض أرباح الشركات، ويغلق بعضها، ‏وتزداد عمليات تسريح العمالة بصورة واضحة، وهو ما لم يحدث حتى الآن.

ولا يزال معدل البطالة في الولايات المتحدة 4.3%، وقد ارتفع قليلا عن مستواه في وقت سابق من العام، ‏لكنه لم يصل إلى المستوى الذي يرعب الأسواق، مما يدل على أن الطلب على العمالة لا يزال مرتفعا.

وفي غضون ذلك، ‏تحقق الشركات نتائج إيجابية، ففي حالة الركود الطبيعي، تنخفض أرباح الشركات، ويختفي العملاء وتضطر الشركات إلى تقديم اقتطاعات كبيرة. ولكن في الربع الثاني من عام 2024، نمت أرباح الشركات العالمية بأكثر من 10% ‏في المتوسط على أساس سنوي، وفقًا لمصرف دويتشه بنك الألماني، وهو أكبر ارتفاع لها في عامين. وعلى الرغم من أن ثقة الشركات في الاقتصاد الأميركي لا تزال منخفضة، إلا أنها ما زالت أعلى مما كانت عليه العام الماضي. ويشير المتشائمون إلى ارتفاع حالات إفلاس الشركات منذ عام 2020-2021. لكن هذا الاتجاه يعكس العودة إلى الوضع الطبيعي من معدل الفشل المنخفض بشكل لافت للنظر ‏الذي تم تسجيله أثناء فترة الوباء، عندما جعلت وفرة من البرامج الحكومية من المستحيل عمليًا انهيار أي شركة.

كيف تمكن الاقتصاد الأميركي من تحقيق ذلك؟ أحد الاحتمالات هو أن الاقتصادات الحديثة ‏أصبحت أقل حساسية لتغيرات أسعار الفائدة، بسبب تراجع الصناعات كثيفة رأس المال مثل بناء المساكن والتصنيع، والتي تتطلب من الشركات اقتراض مبالغ كبيرة من أجل الاستثمار. وبالنسبة للأسر الأميركية، فقد أفادت أسعار الفائدة المرتفعة المدخرين ‏أكثر مما أضرت بالمدينين، خاصة مع توفر السياسات المالية اللازمة.

ولعبت السياسة المالية ‏أيضا دورها في أميركا، ففي عامي 2020 و2021، وزعت الحكومة كميات هائلة من الأموال المحفزة، وقد خففت المدخرات الضخمة التي تراكمت لدى الشركات والأسر خلال ‏الفترة التالية من الأثر السلبي لأسعار الفائدة المرتفعة. وهذا العام، تدير الحكومة الأميركية عجزا بنسبة 7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يمثل إدارة اقتصادية غريبة في وقت يتسم بانخفاض معدلات البطالة إلى هذا الحد. ومع ذلك، ساعد هذا النهج في توجيه الأموال نحو الاقتصاد الحقيقي، حتى مع تشديد البنك الفيدرالي للسياسات.

وربما تكون دورة الأعمال الآن على وشك التحول، ‏حيث لمح باول إلى أن المخاوف بشأن ضعف الاقتصاد كانت الدافع وراء إشارته إلى اقتراب خفض أسعار الفائدة، موضحا أنه وزملاءه في بنك الاحتياط الفيدرالي "لا يسعون ولا يرحبون بمزيد من التباطؤ في ظروف سوق العمل". ومع ذلك، لا يوجد ما يشير إلى أن الاقتصاد على وشك أن ‏يتعرض للاضطرابات.

وحتى إذا ثبت أن حكمهم على حالة الاقتصاد غير صحيح، فقد يكون مسؤولو البنك الفيدرالي على حق في رغبتهم في خفض أسعار الفائدة، حيث إن تكاليف الاقتراض عند مستواها الحالي قد تكون مرتفعة بشكل غير ضروري، مما يضغط على النشاط الاقتصادي بشكل مفرط. وقد يضطر صناع السياسة النقدية إلى زيادة وتيرة التخفيضات إذا ظهرت أدلة على تباطؤ اقتصادي حقيقي. وإذا كان من المبكر الاحتفال بتحقيق هبوط آمن، في ظل السياسة المالية شديدة السخاء، فيمكن القول إن المدرج قد ظهر الآن في الأفق بوضوح.

المساهمون