ثمة غرابة تكسو الأسواق العالمية، ستُنتج على الأرجح مع التراكم انفجارات أو مجاعات وتزيد بالنتيجة من التفاوت بين طبقات المجتمع لترمي بملايين جدد إلى مستنقعات الفقر والحاجة والجوع، يضافون إلى 811 مليوناً عانوا من الجوع نهاية العام المنصرم.
وإلا، كيف يمكن قراءة مؤشرات السلع الأكثر تداولاً ووصولها إلى أعلى مستوى منذ سبتمبر/ أيلول عام 2011، وارتفاع أسعار الغذاء العالمية، بأكثر من 32% على أساس سنوي، لتصل إلى ذروة الأعلى خلال 10 سنوات، رغم فورة الإنتاج بعد عطالة كورونا وارتفاع مؤشرات إنتاج الحبوب العالمي إلى مستوى قياسي لتسجل هذا العام أعلى إنتاج بنحو 2.8 مليار طن.
وكيف يمكن قراءة النهم على النفط، ما رفع سعر البرميل لأكثر من 80 دولاراً، قبل أن يتراجع هذه الأيام على وقع أخبار استئناف إيران والقوى العالمية المحادثات النووية في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري وما رشح من معلومات عن الطاقة الأميركية بزيادة مخزونات الخام.
ما يعني وبكلا المثالين، ليس ثمة أزمة عرض في الأسواق، تبرر ارتفاع الأسعار وزيادة الطلب، لتأتي مؤشرات أخرى، تزيد التوقعات بإحماء ما قبل انفجار ما، كدعوات دول كبرى لتخزين الأغذية، كما فعلت الصين علانية عبر وزارة التجارة "استعداداً لحالة طوارئ" واستعجال بريطانيا اجتماع منتجي الغاز بعد طوابير الانتظار وتهاوي سعر عملات دول ناشئة، وتصاعد حرب الرسوم بين أقطاب التجارة العالمية، إن بين بكين وواشنطن أو حتى بين ما كان بمثابة البيت الواحد، كحال بريطانيا مع دول الاتحاد الأوروبي أو ضمن مجلس التعاون الخليجي أو بينه وأقطار عربية.
ليس ثمة أزمة عرض في الأسواق، تبرر ارتفاع الأسعار وزيادة الطلب، لتأتي مؤشرات أخرى، تزيد التوقعات بإحماء ما قبل انفجار ما
كل تلك المستجدات وغيرها كثير من طوارئ، يزداد ظهورها على المشهد الاقتصادي الدولي، إنما تزيد طرح سؤالين، لماذا وما الحل؟!
قد لا يكون ما يتردد من سوء الإدارة، فقر وهدر، أو جشع ومخاوف من أوبئة أو حروب متوقعة، مقنعاً لفورة ارتفاع أسعار الغذاء في السوق الدولية، والتي لا يمكن لأرقام تقديرات "فاو" 40 أو 50 مليار دولار، أن توزان بين المداخيل والإنفاق وتقضي على الجوع، الأمر الذي يحيل لمشاهد أزمة الغذاء التي عاشها العالم بين عامي 2006 و2008، خاصة أن التماثل بين الأمس واليوم أقرب للتطابق، سواء لجهة ارتفاع أسعار الطاقة أو أسعار الغذاء.
قصارى القول: ربما زيادة هيمنة أقطاب أو دول محددة على الاقتصاد العالمي، إن طاقة أو غذاء وحتى عسكرة، السبب الأهم وراء الخلل غير المبرر بالأسواق، وهذا لا يبعد طبعاً الأسباب المنطقية من تراجع النمو والإنتاج العام الماضي وزيادتهما بعد انقشاع آثار وباء كورونا.
ما يجعل ضرورة هزات أو انقلابات على المألوف والمستشري حاجة تقي العالم من ويلات مجاعات وحروب، حتى ولو كانت من قبيل كسر هيمنة الدولار وبدء التعامل التجاري بعملات محلية، أو تشكيل تكتلات جديدة حول العالم، لا تكون الهيمنة بأعلى سلم أولوياتها، وإحياء اتفاقات الشراكة الإقليمية أو الدولية التي لا تكون واشنطن قطبها الأوحد ولا بكين تهديدها المستمر.
ولعل في دخول اتفاقية الشراكة الاقتصادية لدول جنوب شرق آسيا "آسيان" مطلع العام المقبل، لتكون أكبر اتفاقية تجارية حول العالم، بعض آمال لكسر استقواء وهيمنة باتا مع الزمن عرفاً وأقرب للقوانين القسرية.
فإعلان الأمانة العامة لـ"آسيان"، أول من أمس الأربعاء، عن تلقيها صكوك المصادقة على الاتفاقية من 6 دول أعضاء في "آسيان" (بروناي وكمبوديا ولاوس وسنغافورة وتايلند وفيتنام) إضافة إلى 4 دول موقعة من غير أعضاء الرابطة (أستراليا والصين واليابان ونيوزيلندا) هو ملمح حقيقي لنظام تجاري متعدد الأطراق، يُخفف ولو قليلاً من حمى الهيمنة ويعطي الانتعاش جرعة إضافية، تحتاجها الاقتصادات بعد كورونا والشعوب بعد موجات التفقير، لأن تطبيق هذه الاتفاقية سيزيل نحو 90% من الرسوم لعشرين عاماً مقبلاً بين العشرة الأعضاء بالمنظمة، فضلاً عن الأربعة الكبار من خارجها.
نهاية القول: ربما فتح المنافسة ودخول أطراف جديدة، دول وتكتلات، على الأسواق، بصيغ واتفاقات، وربما بعملات جديدة، سيكسر من حدة الاحتكار وارتفاع الأسعار، ويعيد الأمل ربما بعالم أقل وحشية وأكثر عدالة، وإلا، فجيوش الجوعى المتزايدة عاماً تلو آخر ستنسف خطط المسيطرين وتغير من الملامح وترتيب الكبار على خريطة زاد تسارع اهتزازها بوتائر مخيفة.