قيس ومعركة صندوق النقد والاستنجاد بالعجزة

06 يونيو 2023
سيستجيب قيس سعيد لكل إملاءات وشروط الصندوق (الأناضول)
+ الخط -

تعثّرت المفاوضات الجارية بين حكومة قيس سعيد وصندوق النقد الدولي، والتي تستهدف اقتراض البلاد ملياري دولار، ووصلت المحادثات إلى طريق مسدود بسبب عدم التزام تونس الصارم بتنفيذ ما جرى الاتفاق عليه في وقت سابق مع الصندوق، ومنه خفض الدعم عن بعض السلع والخدمات الأساسية، مثل الوقود والخبز والكهرباء، وتقليص أجور موظفي القطاع العام، وتطبيق برنامج إصلاح لإعادة هيكلة أكثر من 100 شركة مملوكة للدولة ومثقلة بالديون، وبيع بنوك وشركات كبرى تابعة للدولة.

وبدلاً من أن يبحث سعيد عن أسباب ذلك التعثر، ويحاول إقناع المؤسسة المالية بضرورة الإسراع في ضخ سيولة نقدية لإنقاذ البلاد من تعثر مالي وشيك وأزمة مالية ونقدية شرسة وأحوال معيشية غاية في السوء، أو يطرح بدائل عملية لإنقاذ الموقف المأزوم، راح يطرق 4 أبواب لن تؤدي كلها إلى شيء ذي جدوى.

الرئيس التونسي يستنجد ببعض الدول الأوروبية العاجزة مالياً حتى عن مساندة نفسها، وتحديداً فرنسا وإيطاليا

الأول هو الاستنجاد ببعض الدول الأوروبية العاجزة مالياً حتى عن مساندة نفسها، وتحديداً فرنسا وإيطاليا، فقد سارع الرئيس التونسي للاتصال بنظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، لإبلاغه معارضته الشروط التي فرضها صندوق النقد على بلده مقابل منحه ملياري دولار، واصفاً تلك الشروط بأنها بمثابة عود ثقاب يشتعل إلى جانب مواد شديدة الانفجار.

واللافت أن هذا الاستنجاد بماكرون جاء في الوقت الذي تعاني فيه فرنسا من أزمة مالية حادة، بسبب تداعيات التضخم، والحرب الأوكرانية، وأزمة الطاقة، وقبلها أزمة كورونا، والاحتجاجات الواسعة، والإضرابات العمالية والنقابية، والمقاطعة الواسعة لمنتجاتها عالمياً على خلفية الإساءة للنبي عليه الصلاة والسلام.

اقتصاد الناس
التحديثات الحية

أيضاً أجرى قيس سعيد اتصالاً برئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني التي تعيش بلادها أزمة مالية حادة، وانكماشاً وركوداً في الأسواق، وتضخماً قياسياً، وزيادة الدين العام لمعدلات غير مسبوقة، وارتفاع تكاليف الطاقة والغذاء.

كما تعصف بالاقتصاد الإيطالي، ثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا وفرنسا، أزمات عدة بسبب الغلاء، وضعف النمو الاقتصادي، وتزايد الإنفاق العام، فضلاً عن زيادة شيخوخة السكان.

والأخطر ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي بنسبة 159.4%، ما يعد المعدل الأعلى على الإطلاق في إيطاليا والأعلى في الاتحاد الأوروبي بعد اليونان.

وبدلاً من أن تعلن ميلوني عقب المكالمة عن تقديم دعم مالي سخي لتونس، أو تكشف عن محاولتها إقناع الجزائر وغيرها بتقديم دعم نقدي لتونس، ومساعدتها على الخروج من الأزمة المالية والسياسية المعقدة التي تعاني منها منذ سنوات، أعلنت عن قبول دعوة سعيد لزيارة تونس قريباً لبحث ملفات عدة منها وقف الهجرة غير الشرعية لأوروبا.

سعيد يخوف الجميع من مخاطر الاستجابة لإملاءات صندوق النقد، وإعادة تذكير العالم بالأحداث الدامية التي سقط خلالها مئات الشهداء في العام 1984

الباب الثاني الذي طرقه الرئيس التونسي في مواجهة الأزمة مع صندوق النقد هو الخروج بمقترح يقضي بزيادة الضرائب على الأغنياء وزيادة الرسوم والأعباء المالية على المواطن والتي تتضمن زيادة في الأسعار، والتأكيد على أن هذه الخطوة يمكن أن تكون بديلاً للإصلاحات الاجتماعية الصعبة.

أما الباب الثالث فهو تخويف قيس سعيد الجميع من مخاطر الاستجابة لإملاءات صندوق النقد، وإعادة تذكير العالم بالأحداث الدامية التي سقط خلالها مئات الشهداء في تونس يوم 3 يناير/ كانون الثاني 1984 حين جرى رفع الدعم عن الحبوب ومشتقاتها في عهد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة.

وتذكير التونسيين بأعمال الشغب وقتها التي أسفرت عن مقتل 100 شخص، بسبب الارتفاع الحاد لسعر الخبز، في أعقاب خطة تقشف اقترحها صندوق النقد لتونس على حكومة بورقيبة قبل ما يقرب من 4 عقود.

أما الباب الرابع فهو استخدام الرئيس التونسي اللغة الحماسية في مهاجمة صندوق النقد، وتأكيده رفض سياسة الخضوع "للإملاءات" التي يحاول فرضها على حكومته، والحديث المتواصل عن رهان السيادة الوطنية، وضرورة "التعويل على أنفسنا" لتجاوز الأزمات المالية والاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد، والتأكيد على أن بلاده "ليست للبيع"، وهي كلمات لا تصمد لحظات أمام غلاء فاحش ونقص سلع ضرورية في الأسواق مثل الخبز والوقود، وقبلها لا تصمد أمام ضغوط الدائنين الدوليين الذين يفرضون شروطهم ويسعون لضمان استرداد أموالهم.

وربما يلوح قيس لاحقاً بإمكانية لجوء تونس إلى المعسكر الآسيوي، خاصة روسيا والصين، نكاية في الصندوق الذي تسيطر الولايات المتحدة على دوائر صناعة القرار به.

ببساطة، قيس سعيد يخشى من البركان الذي قد تسببه خطة صندوق النقد الدولي التقشفية من تأليب الرأي العام عليه، وإثارة حنق الشارع الغاضب أصلاً.

ببساطة، قيس سعيد يخشى من البركان الذي قد تسببه خطة صندوق النقد الدولي التقشفية من تأليب الرأي العام عليه، وإثارة حنق الشارع الغاضب أصلاً

لكن في النهاية سيستجيب لكل إملاءات وشروط الصندوق بما فيها خفض قيمة العملة، وبيع أصول الدولة، وخفض الدعم الموجه لسلع رئيسية، ربما يكون رغيف الخبز والبنزين على رأسها.

ولن تجدي الكلمات الحماسة والتخديرية التي يطلقها الرجل من وقت لآخر نفعاً، وبسبب فشله الذريع في إدارة الملف الاقتصادي قد تدخل البلاد نفق التعثر المظلم الذي قلما خرجت منه الدول التي تستنجد بالدائنين الدوليين، وتجربة الأرجنتين خير دليل.

الأزمة التونسية مرشحة للتفاقم طالما أن قيس سعيد مستمر على رأس السلطة، يعمق استبداده، ويجعل أولوياته القضاء على المعارضة والإسلام السياسي وسجن المخالفين له في الرأي والتوجه، وليس خدمة المواطن، ومحاولة إنقاذ البلاد من الإفلاس، والحيلولة دون حدوث تعثر محتمل في سداد الديون السيادية.

المساهمون