تواجه مبادرة "الحزام والطريق" الصينية أزمات حقيقية خلال العام الجاري وسط الارتفاع الجنوني في سعر صرف الدولار الأميركي وتهديده للاقتصادات النامية والناشئة التي كانت المسرح الرئيسي لنشاط مشروعات البني التحتية التي نفذتها الصين خلال قرابة عقد من الزمان منذ انطلاق المبادرة في 2013.
وتعاني معظم الدول التي نفذت فيها الشركات الصينية مشروعات "الحزام والطريق" حالياً أزمات مالية بسبب تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، التي ساهمت في رفع أسعار الغذاء والوقود والسلع الرئيسية، وبالتالي أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم وما تلاها من معالجة البنوك المركزية بقيادة الفيدرالي الأميركي لمكافحة التضخم عبر الزيادة الكبيرة والسريعة في سعر الفائدة، حتى باتت الدول الفقيرة والنامية غير قادرة على خدمة ديونها الخارجية.
وحسب الاقتصادية الأميركية والأستاذة في جامعة هارفارد، كارمن رينهارت، في تصريحات لصحيفة وول ستريت جورنال، فإنّ نحو 60% من إجمالي القروض الصينية التي لم تسدد وتطالب بها الشركات والمصارف الصينية مطلوبة من دول تعاني أزمات مالية في العام الجاري، مقارنة بنحو 5% فقط من القروض الخارجية في عام 2010. ومعظم هذه القروض الصينية التي تنتظر السداد من دول فقيرة تراكمت بسبب مبادرة الحزام والطريق، التي أنفقت فيها الصين حتى الآن نحو تريليون دولار.
وكان الرئيس الصيني شي جين بينغ، الأب لمبادرة "الحزام والطريق" قد أطلق عليها "رؤية القرن" لانطلاقة الصين العالمية. ومنذ انطلاق المبادرة، نفذت الصين مشروعات بنى تحتية عبر آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.
وكانت الصين تأمل تحقيق ثلاثة أهداف من المبادرة، هي: أولاً، تعزيز مركزها في النظام العالمي. وثانياً: تعزيز منافستها للولايات المتحدة وزيادة قوتها التصويتية في الجمعية العامة بالأمم المتحدة في القرارات الاستراتيجية التي تشكل مستقبل العالم عبر كسب حلفاء جدد. وثالثاً: توسيع قاعدة أسواقها العالمية وإيجاد منافذ للبضائع الصينية في الخارج، وكذلك تملك موارد السلع الرئيسية والأراضي الزراعية في دول غير قادرة على تطوير هذه الموارد.
ولكن في المقابل، فإنّ مبادرة الحزام والطريق واجهت ضغوطاً كثيفة من قبل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان التي رأت فيها تهديداً مباشراً لنفوذها التجاري والاقتصادي والسياسي في العالم.
ويرى اقتصاديون أنّ مبادرة "الحزام والطريق" تواجه التعثر لعدة أسباب، من بينها تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، إلى جانب ارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع التضخم الذي ترك الدول ذات الدخل المرتفع والمنخفض والمتوسط تقاتل من أجل الحصول على تمويلات جديدة وتستجدي المعونات والقروض من صندوق النقد الدولي بدلاً من سداد ديونها للصين. كذلك تواجه المبادرة انتقادات غربية متواصلة، ويرى العديد من الاقتصاديين والمستثمرين أنّ ممارسات الإقراض الصينية للمشاريع أسهمت في أزمات في دول مثل سريلانكا وزامبيا.
على الصعيد الداخلي في الصين، يرى معهد بروغيل للدراسات الاقتصادية في بروكسل، أنّ الشركات والمصارف الصينية باتت غير متحمسة للدخول في مشروعات جديدة من مشاريع "الحزام والطريق"، لعدة أسباب، أهمها تزايد الحاجة لتمويلات الاقتصاد الصيني الذي يعاني حالياً من تباطؤ النمو الاقتصادي ومخاطر تكبد خسائر في الدول النامية وضعف العائد المتحقق من هذه المشروعات.
ويرى اقتصاديون أنّ فرص تمويل مشروعات جديدة بمبادرة الحزام والطريق تتضاءل في الوقت الراهن وتواجه عقبتان، وفق معهد بروغيل للدراسات في بروكسل: الأولى، أن الصين لا تزال تعاني من تداعيات جائحة فيروس كورونا على الاقتصاد الكلي، وبالتالي فهي بعيدة عن الخروج من الجائحة التي تعوق التبادل التجاري الخارجي الذي يدفع الشركات نحو تمويل مشروعات جديدة في الخارج.
ولاحظ المعهد أنّ الاقتصاد الصيني تباطأ بسرعة في النصف الأول من العام الجاري، بسبب القيود الصارمة التي فرضتها الحكومة المركزية على الأنشطة لمواجهة كورونا، وكذلك أزمة ديون شركات التطوير العقاري التي مثلت ضغوطاً إضافية على البنوك، وتدفعها إلى الحدّ من الإقراض الخارجي.
والعقبة الثانية هي الضغوط الأميركية على الشركات والمصارف الصينية وحرمانها من جمع تمويلات من الأسواق الدولية. وتعاني الشركات الصينية حالياً من صعوبات في الإدراج في بورصات الأوراق المالية الأجنبية أو إصدار السندات الخارجية. وكان هذا الإقراض هو المحرك الرئيسي في تمويل مشاريع البنية التحتية الكبرى في الخارج.
وإضافة إلى ذلك، تعاني الصين حالياً من التغييرات الجيوسياسية التي أدت إلى سقوط حكومات كانت موالية لها في باكستان، كذلك إنّ بعض دول مشاريع الحزام والطريق تعاني من ضغوط واشنطن التي تطالبها بمواقف واضحة تجاه مناصرة موقفها في الحرب الروسية في أوكرانيا. كذلك فإن بكين تتجه لخسارة الأسواق الأوروبية في حال فشل موسكو في الحرب.
لكن على الرغم من هذه العقبات، لا يتوقع اقتصاديون أن تتخلى بكين عن مشروعات الحزام والطريق كلياً، لكن قد تجمدها لبعض الوقت. ويرى محللون أنّ مبادرة "الحزام والطريق" ستظلّ واحداً من المشروعات الطموحة التي نفذتها الصين لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي في العالم. وأسهمت المبادرة فعلياً في زيادة الصادرات الصينية في أوروبا وأميركا اللاتينية، وباتت تشكل هاجساً للصناعات الغربية بما تملكه من كلفة رخيصة وقدرة على المنافسة.