قمة حاسمة لدعم أوكرانيا... وأوروبا تلوح بالعصا الاقتصادية في وجه المجر إذا عرقلت المساعدات

01 فبراير 2024
رئيس حكومة المجر عارض صرف المساعدات في قمة أوروبية عقدت الشهر الماضي (Getty)
+ الخط -

يواجه الاتحاد الأوروبي أزمة على مستوى القرارات الاقتصادية المصيرية، والمتعلقة على وجه الخصوص بـ"التداعيات المالية للغزو الروسي لأوكرانيا". فرئيس حكومة المجر القومي المحافظ فيكتور أوربان أصبح ظاهرة "أوربانية" ذات سحر خاص في معسكر اليمين القومي المحافظ في القارة العجوز.

الرجل يقف معانداً خطط أوروبا صرف نحو 50 مليار يورو (54 مليار دولار) دعماً للاقتصاد الأوكراني في السنوات الأربع القادمة. وتأجل حسم القرار من ديسمبر/كانون الأول الماضي بـ"فيتو" أورباني إلى قمة الأوروبيين اليوم الخميس.

في بروكسل، وعلى مستوى "البرلمان الأوروبي"، يرون أنه بدون الدعم المالي للاقتصاد الأوكراني فإن الجبهات ستتأثر، وربما تنهار بفعل تكاليف الحرب الطاحنة المتواصلة منذ الغزو الروسي للبلد في فبراير/شباط 2022.

قبيل القمة الأوروبية الحاسمة (اليوم) في بروكسل، وفي سياق ضغوط على فيكتور أوربان، من أجل الإفراج عن الأموال لمصلحة كييف، سربت "مصادر أوروبية" لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، الاثنين الماضي، أن بروكسل بصدد تطبيق خطة "سرية" لاستهداف الاقتصاد المجري، بما فيها تخويف المستثمرين وقطع تمويل بودابست.

سرعان ما ذهبت مصادر أخرى، الثلاثاء الماضي، إلى "نفي" الخطة. ومع ذلك فإن آثار "الامتعاض" الأوروبي من سياسات أوربان متواصلة منذ سنوات، مساهمة في تنغيص وحدة حال ومواقف أوروبا. فالرجل متهم بممارسة "ابتزاز" بحق الدول الـ 26 الأخرى في المعسكر الأوروبي، ما يكشف أن حالة من اليأس تدب في أروقة العمل الأوروبي المشترك.

إذ مجرد التلويح بغض النظر عن صحة الوثيقة بتخريب اقتصاد دولة عضو يعني وصول الأمور إلى ذروتها، لما يحمله ذلك من نتائج وخيمة على كل اقتصادات القارة المتشابكة. هذا إلى جانب غياب الإجماع أصلاً على استخدام العصا الاقتصادية الغليظة بوجه دولة عضو، خشية أن تلحق دولاً خرى مستقبلاً نفس الإجراءات.

وحاولت بودابست خلال الساعات اللاحقة لنشر "الخطة" التواصل الدبلوماسي المباشر مع أوكرانيا، وعلى أساس طرح أوربان خطة بديلة لسد أوروبا عجز الميزانية والاقتصاد المترنح في كييف.

خلفيات الصداع المجري

منذ العام الماضي ورئيس حكومة المجر أوربان يُتهم بأخذ أوكرانيا "كرهينة" في معاركه مع الاتحاد الأوروبي، ليس فقط لاتهامه بأنه "صديق" الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل لأنه على المستوى المالي يجعل المليارات حجر زاوية في علاقته بالقارة العجوز.

فبروكسل حجبت نحو 30 مليار يورو عن بودابست، بسبب اتهام التحالف الحاكم "فيديز" بزعامة أوربان تقويض الأسس والمبادئ التي يقوم عليها النادي الأوروبي، وخصوصا لناحية فصل السلطات، بعد أن اتهم بالتحكم بها وجعل هذه السلطات مركزية.

إذا المسألة واضحة، أقله منذ قمة الأوروبيين في ديسمبر/كانون الأول الماضي، في إطار "المقايضة". ومع أن بروكسل قالت قبل نحو شهر إنها ستفرج عن نحو 10 مليارات يورو من حصة المجر من حزمة مساعدات لإنعاش الاقتصاد، وأكدت أنها ليست في سياق المقايضة، إلا أن ذلك ليس ما يطمح إليه أوربان على ما يبدو من اتساع الخلاف المستمر طيلة أسابيع سبقت القمة اليوم الخميس. فالإفراج عن بعض الأموال المجرية مشروط أوروبياً بتبني المجر رسمياً تغييرات معلنة على تشريعاتها، من خلال نشرها في الجريدة التشريعية المجرية.

تريد الدول الـ26 الأخرى في الاتحاد الأوروبي، أقله ظاهرياً، حسم تمرير حزمة الـ50 مليار يورو لكييف، بعد أن وصلت الأمور في البلد الذي تعصف فيه الحرب إلى الحضيض الاقتصادي. وفي المقابل يُظهر أوربان بأن المسألة لا تتعلق بالأموال ولا بفيتو ضد دعم الاقتصاد الأوكراني. فحتى في قضية حسم عضوية كييف في النادي الأوروبي يبدو ساسة بروكسل متخوفين من أنه يحاول استخدام حق النقض (الفيتو) لمصلحة موسكو. فمعظم الأمر يتعلق بمعارضة دعم أوكرانيا في حربها مع روسيا، وهو يلقى بذلك ما يشبه الحماسة في معسكرات أوروبية قومية محافظة، بمن فيهم رئيس حكومة سلوفاكيا روبرت فيكو، والقوميون المتشددون في بولندا والنمسا، وبين قوى أميركية راغبة بوقف الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا.

أوربان ليس وحيداً

عمليا تعيش كييف وداعموها الغربيون حالة غياب يقين إذا ما توقف الدعم المالي الغربي لمواجهة مآزقها الاقتصادية. فبدون هذا الدعم يصعب على أوكرانيا الصمود في وجه روسيا، وذلك أكثر ما يخيف الغربيين على المستوى الاستراتيجي السياسي، مفترضين أن الانهيار الاقتصادي "سيمنح بوتين رخصة تقسيم الغربيين للاستمرار في خطط التوسع إلى ما هو أبعد من أوكرانيا"، كما يذكر لـ"العربي الجديد" عضو البرلمان الأوروبي الدنماركي نيكولاي فيلومسن.

على مستوى القارة الأوروبية باتت الأعين القومية المتشددة، من إيطاليا وفرنسا وبعض شرق أوروبا إلى النمسا فألمانيا وصولاً إلى قوى إسكندنافية، تراقب عن كثب تكتيكات أوربان، باعتبارها "بروفات" لما يمكن أن تقوم به إذا ما أصبح القرار الأوروبي بيدها.

فالامتعاض من الصرف المالي الأوروبي على أوكرانيا لم يعد سراً، رغم رفض كثيرين لمنطق الغزو والضم. ففي الفترة الممتدة من فبراير/شباط 2022 وحتى نوفمبر/تشرين الثاني 2023 قدم الاتحاد الأوروبي نحو 65.6 مليار يورو دعما لكييف، منها 40 مليار على شكل دعم إنساني واقتصادي ونحو 25 مليار يورو كدعم عسكري. وجاءت 36 مليار يورو من إجمالي المساعدات مباشرة من الاتحاد الأوروبي، بينما بقية المبالغ كانت من الدول الأعضاء.

وما يرفض تمريره فيكتور أوربان إلى كييف هو المال الآتي من ميزانية الاتحاد الأوروبي. فالخمسون مليار يورو يريد الأوروبيون تخصيصها كحزمة واحدة لتغطي السنوات الأربع القادمة، بينما أوربان يريد ببساطة "التوصل إلى حلول وسط للتصويت سنوياً على كل حزمة لوحدها، ما يبقي الفيتو بيده خلال السنوات القادمة"، وفق فيلومسن، الذي يرى أن هذه الطريقة تهدف إلى "ممارسة المزيد من الابتزاز".

والاقتصاد الأوكراني بطبيعة الحال غير قادر على النجاة دون الدعم الأوروبي المقرر، حيث من الممكن أن تنهار الإدارات العامة للدولة، بحسب أيضا ما حذر رئيس أوكرانيا فولديمير زيلنسكي خلال قمة جمعته في أوسلو بقادة دول "مجموعة الشمال" الشهر الماضي.

ووفقا لتقرير صندوق النقد الدولي الصادر في مارس/ آذار الماضي فإن أوكرانيا ستعاني في العام الحالي 2024 عجزاً في المالية العامة قدره 26 مليار يورو، وفي 2025 بنحو 22 ملياراً وفي 2026 بـ 13 مليار يورو.

ومع أن الأوروبيين مرروا الجزء الأخير من حزمة المساعدات السابقة عن عام 2023، بنحو 18 مليار يورو، لكن ذلك يبدو غير كاف. فتوقف التمويل بفعل الفيتو المجري "سيكون بمثابة ضربة في وجه الجنود الأوكرانيين على الجبهة، الذين يأملون في مستقبل في الاتحاد الأوروبي" وفق ما أشار الرئيس الأوكراني في اجتماعه مع قادة دول الشمال في أوسلو.

إرهاق الحرب المالي

فهمت رئيسة وزراء الدنمارك ميتا فريدركسن السجال الأوروبي مع فيكتور أوربان باعتباره خطراً على وحدة حال القارة الأوروبية. وفريدركسن، التي تُعبر ضمنياً عن قادة أوروبيين آخرين متحمسين لاستمرار دعم أوكرانيا في حربها مع روسيا، أكدت أنه "يجب على الأوروبيين عدم إظهار أنهم يعانون من إرهاق الحرب، فبوتين يأمل في انقسامنا وإرهاقنا، ومن المحرج أن نُشعر الأوكرانيين أننا تعبنا".

غير بعيد عن ذلك ذهب رئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل، حين أكد على وجوب تقديم الدعم المالي والعسكري والسياسي لأوكرانيا "وعلينا التوصل إلى حل للاتفاق على توفير الـ50 مليار يورو لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل لأوكرانيا".

وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، أكدت أخيراً في المنتدى الاقتصادي العالمي "دافوس" على ضرورة موافقة الاتحاد الأوروبي على الحزمة المالية "مع /أو دون المجر"، معتبرة أن الدعم الاقتصادي "ضروري لتعزيز مقاومة أوكرانيا".

بالطبع ثمة مقترحات كثيرة في أوروبا، من غير تلك التي تحدثت عنها مصادر "فايننشال تايمز "عن استهداف الاقتصاد المجري. فالوقت يعمل في غير مصلحة الاتحاد الأوروبي، خاصة مع تنامي مواقف أوروبية أخرى شبيهة بمواقف أوربان من "إرهاق" الدعم المالي المتواصل لأوكرانيا، والذي يعزف عليه اليمين القومي المتشدد والشعبوي، باعتباره يتسبب في أزمات مالية واقتصادية لمجتمعاتهم الأوروبية.

في هذا السياق، وبحسب معلومات خاصة لـ"العربي الجديد" من ستراسبورغ، فإن كتلاً برلمانية أوروبية (تحديداً من اليسار ويسار الوسط) تقف متأهبة لحل معضلة المجر وشخص فيكتور أوربان وتحالفه القومي المحافظ (فيديز). وتستند جهود الكتل البرلمانية، فيما تبقى من وقت قبيل انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو/حزيران المقبل، إلى "ضرورة تطبيق الاتحاد الأوروبي إجراءات المادة 7 في قانون الاتحاد الأوروبي الأساسي"، التي تنص من بين قضايا أخرى، على دعوى ضد دولة عضو إذا ما قامت بانتهاك القيم الأساسية للاتحاد، وبالتالي نزع حقها في التصويت.

لكن الطرح ليس جديداً. إذ سبق أن طُرح في ستراسبورغ في 2018، وضد بولندا في 2017. وفي المرتين فشل الأوروبيون في تأمين الإجماع المطلوب لنزع حق التصويت عن البلدين المتهمين بانتهاج سياسات "غير ليبرالية"، وخلط بين السلطات وهيمنة على أخرى (كالقضاء والإعلام وغيرهما).

بالطبع يمكن للدول الـ26 (أي دون المجر) تمويل حزمة المساعدات لأوكرانيا من خارج ميزانية الاتحاد، للتغلب على فيتو أوربان. لكن في هذه الحالة يعرف أوربان أيضا أن الأمور في صالحه. فمثل تلك الخطوة ستتطلب موافقة البرلمانات الوطنية في الدول الـ26 لتمرير حصتها من الـ50 مليار يورو. وهنا بالضبط يقف في المرصاد من يشبهون أوربان في تذمرهم من إرهاق جيوب مواطنيهم واقتصاداتهم التي تعاني بالأصل من احتجاجات.

فمعسكر القوميين والشعبويون ليسوا أقل معارضة من أوربان المجري. ويسري هذا على مارين لوبين في فرنسا وماتيو سالفيني في إيطاليا وغيرت فيلدزر في هولندا ورئيس وزراء سلوفاكيا روبرت فيكو وحزب البديل لأجل ألمانيا وقوميي بولندا وديمقراطيي السويد ويمينيي الدنمارك وفنلندا والنمسا، إلى آخره حيث تنتشر معسكرات اليمين في البرلمانات الوطنية، وتمنحها الاستطلاعات قبل انتخابات أوروبا في يونيو/ حزيران المقبل تقدماً وسط أزمة و"انتفاضة الفلاحين" المحتجين على ارتفاع تكاليفهم وسياسات حكوماتهم مساندة المزارعين الأوكرانيين عبر تسهيل عبور محاصيلهم عبر بلدانهم.

تكتيك أوربان

في المجمل، يبدو الاتحاد الأوروبي في مواجهة معضلة حقيقية أمام استمرار تبنيه اقتصاد الحرب، هذا إلى جانب اتهامات ضمنية لبعض الدول بأنها تلاعبت في مسألة تزويد أوكرانيا بأسلحة قديمة من مخازنها لأجل تلقي أموالاً تعويضية من الاتحاد الأوروبي لشراء أسلحة أحدث لها.

فمسألة السجال حول تمويل أوكرانيا قبل قمة اليوم الخميس كشفت عمق الاختلاف الأوروبي، وغياب "الإجماع" الأوروبي على مسألة يعتبرونها حيوية على مستوى مواجهة روسيا استراتيجيا. بطبيعة الحال يراقب ساسة بروكسل عن كثب كيف أن وضع كييف أصبح حرجاً، ومع نهاية فبراير/شباط (إذا لم يجري تأمين المبالغ الأوروبية) لن تكون بحوزة كييف الأموال اللازمة لدفع تكاليف التعليم والصحة على سبيل المثال.

بل وبدون هذا الدعم الذي يشمل الخمسين مليار يورو، وتجزئتها إلى سنوية، فإن الشكوك وغياب اليقين سيزداد ليس في أوكرانيا وحدها بل بين القوى الأوروبية المتحمسة لمواصلة ضخ المال في شرايين اقتصاد أوكرانيا، وخصوصا أنها قوى تؤمن بأن كييف تشكل حائط صد أخيرا بوجه "الدب الروسي". ذلك ما سيتوجب على قادة أوروبا مواجهته لتذليل وتجاوز عقبات وتكتيكات فيكتور أوربان، ومن خلفه القوى المتشككة بجدوى الصرف المالي الأوروبي في أوكرانيا، المتهمة أيضا بأنها تعيش وسط بركة من الفساد والهدر المالي.

صحيح أن أوروبا يمكنها أيضا التخلص من صداع أوربان بالتنازل له، ومنحه ما يريد من مال، إلا أن ذلك سيعمق مشكلة القارة مع ما تسميه "التحول نحو أنظمة غير ليبرالية"، وانتهاك لمبدأ فصل السلطات، وغيرها من قضايا قيمية ومبادئ يقوم عليها بالأصل الاتحاد الأوروبي.

بالنسبة لأوربان ومفاوضاته حتى فيما يتعلق بعضوية السويد في حلف شمال الأطلسي، وإرسال وزير خارجيته إلى كييف الثلاثاء الماضي، فالأمر يدور حول الإبقاء على حق النقض (الفيتو) خلال السنوات القادمة. فمقترحه لحل مشكلة تمرير الـ50 مليار لكييف هو تقسيم المبلغ إلى سنوي بدل تبنيه حزمة واحدة للسنوات الأربع القادمة. إذ يبدي استعدادا لتمرير المجلس الأوروبي لمبلغ 12.5 مليار يورو سنوياً، وهو برأي معارضي مقترحه فرصة له للمقايضة على مسألة توازي ذلك بالإفراج عن أموال المجر المجمدة، دون أن يقدم على الإصلاحات المطلوبة. بل إن أوربان استطاع في الشهر الماضي فرض تأجيل مناقشة دفع المال لأوكرانيا حتى اليوم الخميس، دون أن تتضح معالم الحل حتى ساعات قبل القمة الحالية، لإظهار أوروبا متوافقة.

المساهمون