بالتزامن مع التراجع الشديد في سعر الجنيه المصري، وفقدانه ما يقرب من خمسين في المائة من قيمته أمام الدولار، سمع المصريون الكثير من الأكاذيب، وتعرضوا للعديد من أساليب الخداع والتضليل.
لكنني أكاد أجزم أن أخطر خدعة تم "النصب" بها عليهم هي إقناعهم أن حل الأزمة الحالية يكمن في بيع حصة الحكومة في مجموعة من الشركات والبنوك التي تملكها، وأن تحقيق ذلك يمثل أقصى درجات النجاح التي يمكن أن نطمح فيها في الظروف الراهنة.
سيقت إلينا الفكرة باعتبارها نوعاً من أنواع الاستثمار الأجنبي، الذي لطالما نادى به كثيرون، كونه وسيلة لتعزيز التطور الاقتصادي، ونقل التكنولوجيا والمعرفة، وتوفير فرص العمل، كما زيادة الصادرات وتقليص العجز التجاري.
لكن الواقع، والأسلوب الذي تم عرض الشركات للبيع من خلاله، لم يسهم في تحقيق أي من تلك الأهداف "النبيلة"، بل إن الاستثمار نفسه لم يأت إلى البلاد، إلا في ما ندر.
في إبريل/نيسان 2022، وبعد التأكد من خروج أكثر من عشرين مليار دولار من الأموال الساخنة، التي اعتمد عليها البنك المركزي في إيهام نفسه، قبل المصريين، بوجود فائض من العملة الأجنبية في البلاد، ارتفع سعر الدولار مقابل الجنيه من 15.75 تقريباً إلى 18.35 جنيهاً مقابل كل دولار.
وقتها تم بيع حصة الحكومة المصرية في خمس شركات وبنوك لصندوق الثروة السيادي الإماراتي، بقيمة إجمالية تقترب من ملياري دولار، كنا نحتاج إليها بشدة في ذلك التوقيت.
سعد الصندوق الإماراتي وقتها بشرائه الشركات المصرية الواعدة بخصم يقترب من 15%، هو الفارق بين سعر الدولار مقابل الجنيه عشية إتمام الصفقة، والسعر الذي تم تنفيذ الصفقة به، ورضينا نحن بما قسمه الله لنا، وما فرضه حالنا الذي أوصلتنا إليه سياسات البنك المركزي خلال العامين اللذين سبقا الأزمة.
مر أكثر من عام من تلك اللحظة، فلا ساهم الاستثمار الذي جاء في تعزيز التطور الاقتصادي في الشركات التي تم بيع حصة الحكومة فيها، ولم نسمع بتكنولوجيا تم نقلها إليها أو معرفة، ولم تُخلق فرص العمل، ولا تراجع العجز التجاري، بسبب الأموال التي جاءت.
أثبتت الأيام أن ما حدث لم يكن الاستثمار الذي سعينا لاستقدامه، وكان ذلك أمراً طبيعياً، حيث كانت الحصص التي تم بيعها حصص أقلية في تلك الشركات، وهو ما لم يتح للمشتري أن يقدم أياً من التغييرات الاستراتيجية التي تمنيناها.
تأكدنا وقتها أن ما تم لم يكن إلا بيعاً لجزء من الأصول التي كانت تملكها الحكومة، وهو ما يعني بالضرورة حرمان الموازنة العامة للدولة من إيرادات خمس من أقوى وأنجح الشركات المصرية، وحرمان البلاد من حصيلة النقد الأجنبي المقابل لصادرات تلك الشركات.
بل ووضع المزيد من الضغوط على الحساب الجاري في البلاد، حيث سيرغب الصندوق المشتري في تحويل أرباحه بعد نهاية كل عام، وهو ما يعني سعيه لشراء العملة الأجنبية المقابلة لتلك الأرباح، حتى يمكنه تحويلها للخارج!
ثم انتظرنا بعدها تنفيذ المزيد من عمليات البيع، بسبب توالي الالتزامات على الحكومة المصرية، سواء في صورة مدفوعات خدمة الدين الخارجي، أو الوفاء بقيمة وارداتنا، أو ما يتم بيعه للمصريين الراغبين في السفر، أو تلقي التعليم أو العلاج في الخارج، ولم يأت المشترون.
تسربت الأقاويل أن المشترين المحتملين من "الأشقاء الخلايجة" ينتظرون وصول سعر الدولار إلى عشرين جنيهاً حتى يتقدموا بعروض الشراء، فجاء السعر ولم يحضر المشترون، وقيل لنا إنهم ينتظرون سعر 25 جنيهاً للدولار، فجاء السعر وعز المشترون، ثم قيل لنا إنهم ينتظرون سعر ثلاثين جنيهاً للدولار، فجاء السعر وتدلل المشترون أيضاً.
ورغم أن الحكومة أعلنت قبل نهاية العام الماضي عن عزمها بيع 32 شركة، قيل إنها أصبحت أربعين شركة، من بينها شركتان تابعتان للجيش، بدا واضحاً ابتعادنا عن تحقيق الهدف.
فجأة أصبح الشغل الشاغل لنا جميعاً هو استطلاع هلال المستثمر الأجنبي كل ليلة، في انتظار قدومه، طال عمره، لكن من الواضح أنه غير قانع بسعر 31 جنيها للدولار الموجود حالياً، ويطلب المزيد من التخفيض للعملة المصرية، خاصة مع ما يراه من تدهور في سعرها في الأسواق غير الرسمية (نعم عدة أسواق غير رسمية، وليست سوقاً واحدة).
وفي هذه الأثناء، وقع البنك المركزي المصري في معضلة يصعب الفكاك منها. فمن ناحية، يحاول البنك تأجيل السماح بتخفيض جديد للعملة، لحين التمكن من توفير "بضعة مليارات من الدولارات"، تساعده في مقابلة الطلبات المتراكمة، حتى لا ينهار الجنيه عند إجراء ذلك الخفض.
ومن ناحية أخرى، لن يأتي المستثمر، طال عمره، قبل إجراء الخفض المنتظر. وبين البنك والمستثمرين، غرق المواطنون في بحر التضخم، الذي تجاوزت أمواجه مستوى 40%، مع التراجعات المتتالية في قيمة الجنيه، لا لزيادة الطلب كما يروج المنتفعون من أسعار الفائدة المرتفعة.
خلت جعبتنا من الحلول، واضطررنا للعيش في "جلباب" طال عمره، على أمل أن يجد في "أصولنا" التي نسعى لبيعها فرصة يضمن بها تحقيق أرباح طائلة، في غياب واضح لأصحاب القبعات، الذين لا يفكرون في حسابات الأرباح والخسائر بعد مستوى معين من المخاطر، التشغيلية والتنظيمية والسياسية والمرتبطة بسعر العملة، وهو ما بدا واضحاً أننا تجاوزناه منذ فترة!
"بيع الأصول" لن يحل أزماتنا، وسيتسبب في زيادة حدتها في الفترة القادمة، كونه يقلل إيرادات الدولة، ويزيد عجز الموازنة، ويضاعف الضغوط على الجنيه، فتزيد الصعوبات التي يواجها أبناؤنا وأحفادنا، حين يجدون أننا تركناهم في وضع أسوأ مما نحن فيه الآن، وبعد التخلص من جزء لا يستهان به من الأصول التي كنا نملكها.
إنجاز الحكومة لمهمة بيع الأصول لن يكون نجاحاً، ولن يخدعنا احتفالها به، لأنه سيكون علامة على أكبر نكسة تتعرض لها البلاد في تاريخها الحديث، ووقتها لن ينفعنا حتى رحيل من تسببوا فيها.