أثارت قضية إغلاق الحساب المصرفي للسياسي البريطاني نايجل فاراج، جدلاً أوسع حول الحاجة إلى الشفافية والمساءلة والمعاملة على قدم المساواة في مجال الخدمات المالية، وكانت بمثابة تذكير صارخ بالتوازن الدقيق الذي يجب على المؤسسات المالية في بريطانيا، أن تحقّقه بين دعم التدابير التنظيمية المشروعة وضمان عدم انتهاك هذه التدابير عن غير قصد، لحقوق الأفراد أو التمييز على أساس معتقداتهم.
وكان زعيم حزبي "بريكست" السابق و"استقلال المملكة المتحدة" (اليميني الشعبوي المشكك في أوروبا)، أثار خلافاً حول حرية التعبير، بعدما ادعى أن حساباته أغلقها بنك الإقراض المرموق "كوتس"، "انتقاماً منه" على مواقفه الداعمة للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي.
وأكد فاراج، في يوليو/ تموز الماضي، أن مصارف أُخرى عدة رفضت فتح حسابات له منذ ذلك الحين، زاعماً أنه كان ضحية "تكتلات مؤسسية كبيرة لم تكن تؤيد خروج المملكة المتحدة من الكتلة الأوروبية".
وكشفت إحصائيات صادرة عن هيئة السلوك المالي (FCA)، العام الماضي، عن تفاوت مثير للقلق في مجال الخدمات المصرفية، حيث إنّ واحداً من بين كل 50 بالغاً في المملكة المتحدة لا يملك حسابات مصرفية، ويفتقر إلى إمكانية الوصول إلى الخدمات المصرفية التقليدية. وهذه النسبة تنمو بشكل مثير للقلق لتصل إلى واحد من كل 10 أفراد ضمن المجموعة السكانية المسلمة.
ورداً على قضية إغلاق الحسابات المصرفية المثيرة للجدل، أعلنت الحكومة البريطانية التزامها بإجراء مراجعة شاملة لهذه المسألة، تهدف إلى معالجة السياق الأوسع والتحديات المحددة التي يواجهها السياسيون، الذين غالباً ما يتم تصنيفهم على أنهم أكثر عرضة لمخاطر غسيل الأموال والفساد في نظر المؤسسات المالية.
وفي تحول تنظيمي كبير، سيُطلب من البنوك قريباً، إشعار أصحاب الحسابات قبل 90 يوماً من إغلاق حساباتهم وتقديم سبب منطقي واضح قبل إنهاء خدماتهم.
ومع اشتداد الخطاب المحيط بالقدرة على الوصول العادل إلى الخدمات المالية، تلعب أصوات المتضرّرين ومنظّمات مثل "منتدى المنظمّات الخيرية الإسلامية" دوراً محورياً في لفت الانتباه إلى الحاجة للحياد والعدالة والشمولية داخل القطاع المالي. وهذه المسألة تمتد إلى ما هو أبعد من الإحصائيات وتشمل المبادئ الأساسية للمساواة والسعي إلى تحقيق تكافؤ الفرص لجميع أفراد المجتمع.
يقول الرئيس التنفيذي لمنتدى المنظّمات الخيرية الإسلامية في بريطانيا، فادي عيتاني، لـ"العربي الجديد"، إنه "منذ هجمات 11 سبتمبر (2001)، يواجه العرب والمسلمون ومنظّماتهم تحديات ما يعرف بتقليص المخاطر المصرفية. ولا يتمثل هذا الحال في المملكة المتحدة فقط بل في جميع أنحاء العالم".
ويكمل: "نحن على دراية بالمنظّمات التي تواجه مثل هذه التحديات، وفي الواقع تواصل معنا عدد كبير من بينهم طلباً للدعم. بيد أنّنا نواجه صعوبات تتمحور حول قلقهم في التعريف عنهم، كونهم يخشون مواجهة المزيد من العقبات في ما تبقّى لهم من التسهيلات المصرفية، إن وجدت".
أضاف: "لذا، من الصعب إعطاؤك رقماً محدداً عن الجمعيات التي تمّ إغلاق حساباتها المصرفية في بريطانيا. بيد أنّنا من خلال تفاعلنا مع المؤسسات الخيرية، نقدّر أنّ ما يقارب 100 مؤسسة واجهت تحدّيات مختلفة بينما أُغلقت حسابات 50 منظمة على الأقل".
ويشير عيتاني إلى أن مديرة الأبحاث والاستشارات والسياسات تيريزا دوماسي التي لعبت دوراً تنسيقياً للمنظمات غير الحكومية الدولية في المملكة المتحدة بشأن تشريعات مكافحة تمويل الإرهاب وقضايا العقوبات منذ عام 2012، واستضافها المنتدى، العام الماضي، تطرّقت إلى الأضرار التي تلحق بالجمعيات الخيرية الإنسانية جرّاء محاولات القضاء على المخاطر المالية، ووثّقت تأثيرها بشكل شامل، من خلال الحديث عن حال الصومال في العام 2011، حيث أدت تحديات الوصول إلى التمويل إلى تفاقم المجاعة، وفي سورية أيضاً، حيث لا تزال الطرق المصرفية الرسمية للوصول إلى السكان المدنيين الذين هم بأمس الحاجة إليها، مقيدة بشدة.
كما لفتت إلى أنّ القرار الذي اتخذه بنك الريان، أكبر بنك إسلامي في المملكة المتحدة، في العام 2020، الذي قضى بالتوقف عن تسهيل المعاملات المصرفية خارج الاتحاد الأوروبي، كان بمثابة ضربة للعديد من الجمعيات الخيرية الإسلامية، ذلك نظرًا للعدد المحدود من الطرق المصرفية الرسمية البديلة المفتوحة أمامها وعدم وجود فرصة للطعن في القرار.
وتجدر الإشارة إلى أنّ التحدي المتمثل في محدودية الوصول إلى الخدمات المصرفية للأفراد والكيانات الإسلامية، ليس جديداً بل لطالما كان مصدر قلق دائم. فبالعودة إلى عام 2014، وجد بنك "إتش إس بي سي" نفسه تحت تدقيق المنظمات الحقوقية بسبب قراره إغلاق حسابات عدة جهات، من بينها للاجئين سوريين، ومسجد فينسبري بارك وغيره.
يلفت عيتاني، إلى أنّه تمّ استغلال أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، لتحجيم العمل الإنساني والخيري الذي تقدّمه هذه الجمعيات في العالم العربي والإسلامي. وشبّه الوضع الحالي، بالمثلث الذي يجمع بين التقارير الإعلامية السلبية والبنوك وقواعد بيانات العناية الواجبة.
وتابع: "علاوة على ذلك هناك بنوك تقول إنّها ترغب في التعاون، ولكن تخشى العقوبات التي تشمل غسل الأموال ومكافحة الإرهاب".
يوضح عيتاني: "عند إغلاق الحساب المصرفي لأي مؤسسة إسلامية، لم تتكلّف البنوك عناء إيضاح الأسباب. وعندما ناقشنا هذه المسألة مع الحكومة، أجابت بأن البنوك مؤسسات خاصة ولا يمكنها التدخل. لكن جاءت قضية فاراج لتبرز ازدواجية المعايير، حيث شهدنا التدخّل الحكومي الذي حدث في هذا الشأن.. وأعتقد أنّ الحكومة تملك نسبة 50% في عدد من البنوك مثل نات ويست ولويدز، يعني أنّها قادرة على التدخل ويمكن أن تلعب دوراً في إيجاد حلّ لهذه القضية".
ويشير إلى أنّ "وزارة المالية تتمتع بالسلطة للضغط وفرض سلطة الامتثال المالي، كما حدث مع قضية فاراج حيث طلب المستشار بدء التحقيق الفوري، وهو ما لم يحدث بتاتاً مع أي مؤسسة إسلامية أُغلق حسابها المصرفي. ولا يقتصر الأمر على ذلك بل تتبعه خسارة المتبرّعين بسبب الوقت الذي تحتاجه المؤسسة لفتح حساب آخر، قد يمتد إلى شهرين. لذلك من الطبيعي أن تشعر المؤسسات الإسلامية بأنّها مستهدفة من قبل البنوك".
وتابع: "برأيي هو شكل آخر من التمييز، يتمثّل في التمييز المالي وتصنيف الناس حسب أسمائهم على سبيل المثال. ففي حال أردت تحويل مبلغ مالي إلى لبنان وتمّ الاشتباه باسمي فقط، قد تتوقف الحوالة ويُغلق الحساب المصرفي ببساطة ومن دون أي توضيح أو التواصل معي".
ويشدّد عيتاني على أنّ "جذور هذه المشكلة بدأت في الولايات المتحدة مع محاولات مكافحة الإرهاب وتمويله، ومعها انطلقت تحديات البنوك وإغلاق العديد من المؤسسات، وهذا لم يحدث في بريطانيا لغاية اليوم، بل لا يزال يقتصر الأمر على إغلاق الحسابات المصرفية".
واستهجن عيتاني قرارات البنوك وتعاملها "التمييزي" مع العديد من المؤسسات الإسلامية، خاصة بعد صدور التقرير الحكومي "التقييم الوطني للمخاطر المتعلقة بغسل الأموال وتمويل الإرهاب 2020"، الذي يعتبر المؤسسات الخيرية منخفضة المخاطر، في ما يتعلق بهذه القضايا.
ويعتقد عيتاني أنّه ربما ينبغي على المؤسسات الإسلامية، استخدام النظام القانوني لمواجهة التحديات المصرفية. وقد يكمن أحد الحلول الرئيسية في استخدام ما يعرف بـ"حق الوصول" (subject Access Request)، الذي يمنح الأفراد حق الوصول إلى بياناتهم الشخصية والمعلومات التكميلية الأخرى، ومعرفة سبب اتخاذ البنك قراراً بإغلاق الحساب.
ومن المعلوم أن مفهوم "التخليص المصرفي" برز في الوعي العام، في أعقاب كشف فاراج، عن إنهاء حسابه المصرفي لدى شركة "كوتس" المرموقة التابعة لـ"مجموعة نات ويست" في يونيو/ حزيران الماضي.