يقولون إن الأرقام لا تكذب، وأن الرقم شفاف ويعبر بدقة عن العمليات الحسابية، ولا يعرف المبالغة والكلمات الإنشائية والعواطف.
صحيح أنه ربما يحدث خلاف حول تفسير الأرقام والمؤشرات كما الخلاف حول كل شيء، لكن الرقم رقم صحيح في النهاية، وهو أقرب إلى لغة المصالح والمال والبزنس والصفقات.
وما يحدث في عالم التجارة والاقتصاد وحركة السفن والبضائع بين الدول قد يخالف كلية ما يدور على السطح من معارك سياسية وتجاذبات كلامية وتهديدات قد تصل إلى حد التلويح بالحرب وربما خوضها. وهناك نماذج كثيرة على ذلك، حروب سياسية في العلن، ومصالح تجارية وصفقات واتفاقيات في السر.
أكبر دليل على ذلك هو العلاقة المعقدة بين طهران وأبوظبي، ففي الوقت الذي تناصب فيه الإمارات إيران العداء الشديد لأسباب كثيرة منها احتلال طهران ثلاثاً من جزرها نجد أن العلاقات الاقتصادية والمالية والتجارية نشطة جداً بين البلدين، وأن الإمارات هي ثاني أكبر شريك تجاري لإيران خلال العامين الماضيين، وأن حجم التبادل التجاري بين البلدين فاق 15.7 مليار دولار في عام 2013 حسب أرقام رسمية.
وأنه في الوقت الذي كانت تعلن فيه أبوظبي التزامها بالعقوبات الغربية المفروضة على طهران بسبب برنامجها النووي تصدّرت الإمارات قائمة الدول العربية من حيث التبادل التجاري مع طهران خلال العام 2017، بما قيمته 11.1 مليار دولار، شكّلت الصادرات الإيرانية 4.458 مليارات دولار، كما أعلنت منظمة الجمارك الإيرانية أن حجم التبادل بلغ 13.5 مليار دولار خلال عام (مارس 2019- مارس 2020).
وفي الوقت الذي كان الغرب يحاول فيه خنق طهران اقتصادياً ومالياً، كانت الأموال الإيرانية تعرف طريقها إلى الخارج ومصارف العالم عبر البنوك وشركات الصرافة وتحويل الأموال ومراكز الأفشور المنتشرة في إمارة دبي.
بل إن الدول العربية التي تناصب معظمها طهران العداء بلغ حجم التبادل التجاري بينها وبين إيران 22 مليار دولار في العام الفارسي الماضي المنتهي في مارس 2020، وأن العراق والإمارات وعُمان وقطر والكويت وسورية ولبنان والأردن والبحرين من أكبر مستوردي الصادرات الإيرانية لدول المنطقة.
نفس السيناريو يتكرر مع تركيا، ففي الوقت الذي زاد فيه التوتر بين أنقرة وواشنطن ووصل إلى حد إعلان ترامب أكثر من مرة الحرب الشرسة على الاقتصاد التركي وعملته الليرة في العام 2018، كانت التجارة تنساب بسهولة بين البلدين، بل تتجاوز قيمتها 25 مليار دولار، في نفس العام، وهناك خطة لرفع مستوى التبادل التجاري بين البلدين، إلى مستوى 100 مليار دولار خلال السنوات المقبلة.
وفي شهر يناير الماضي تصدرت الولايات المتحدة، قائمة البلدان التي زاد حجم الصادرات التركية إليها حسب أرقام يوم الأثنين.
وفي الوقت الذي تشتد فيه الخلافات السياسية بين تركيا من جهة وفرنسا وألمانيا من جهة أخرى، كانت البضائع التركية تعرف طريقها لأسواق البلدين اللذين احتلا مرتبة متقدمة بين مستوردي الصادرات التركية حسب أرقام مجلس المصدرين الأتراك.
ورغم التوترات والخلافات السياسية المعروفة بين مصر وتركيا على خلفية ملفات عدة منها ليبيا وشرق المتوسط وسورية وغيرها نجد أن حجم التبادل التجاري بين البلدين شهد نموا مضطردا خلال السنوات الماضية.
ووفق الأرقام فإنه في أول تسعة أشهر من العام 2019 بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر وتركيا نحو 4.6 مليارات دولار، وهو نفس الرقم الذي سجله خلال عام 2018 بأكمله.
تنطبق هذه المعادلة على العلاقات التجارية بين كل من الصين والولايات المتحدة، الصين والهند، تركيا والسعودية، تركيا وروسيا، روسيا والاتحاد الأوربي، المغرب وإسبانيا وغيرها.
بل إنه في ذروة الحرب التجارية الشرسة بين الولايات المتحدة والصين خلال فترة حكم دونالد ترامب وتفشي وباء كورونا، ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2020 بنسبة 8.3 بالمئة لتصل إلى 586.72 مليار دولار بالمقارنة مع الفترة نفسها من عام 2019.
المصالح تتصالح كما يقولون، والأرقام تجمع بين ألد الأعداء، وإذا حضر الرقم والمال حضرت معهما لغة العقل والمنطق، وتغلبت تلك اللغة الواقعية على المهاترات السياسية والتهديدات والحملات الإعلامية الممنهجة.