فوضى شاملة في لبنان... انهيار قاس وسط سقوط الليرة أمام الدولار

17 مارس 2021
احتجاجات في لبنان بسبب انهيار الليرة (حسين بيضون)
+ الخط -

بدأت التحذيرات المحلية والدولية من انعكاسات الأزمة النقدية والاقتصادية الكارثية في لبنان تُترجَم ميدانياً مع انحدار البلاد إلى الفوضى الشاملة، وتعذّر على أكثر من نصف السكان الوصول إلى احتياجاتهم الغذائية الأساسية، نتيجة انهيار قيمة العملة الوطنية، والارتفاع الحاد في معدلات الفقر والبطالة التي فاقمتها تدابير الإقفال لاحتواء جائحة كورونا، وهو سيناريو نبّهت إليه منظمة "الاسكوا" في أغسطس/ آب 2020، تلاه حديث الرئيس ميشال عون في سبتمبر/ أيلول الماضي عن "جهنّم" التي سيصل إليها اللبنانيون في حال عدم تشكيل الحكومة التي ما تزال رهينة ما يصفه محللون بـ"جشع المسؤولين" الباحثين عن المكاسب والحصص وتمسّكهم بمراكز القرار.

وأشعل ارتفاع سعر صرف الدولار الجنوني وتجاوزه عتبة الخمسة عشرة ألف ليرة لبنانية الشارع من جديد وأعاد إلى الواجهة المسيرات الاحتجاجية وعمليات قطع الطرق في كافة أنحاء البلاد، اعتراضاً على الأزمة النقدية وتردي الأوضاع المعيشية والاجتماعية والاقتصادية وانعدام القدرة الشرائية عند المواطنين، بينما ودائعهم محتجزة في المصارف، في ظلّ غياب كامل للأجهزة المعنية رقابياً، أمنياً وقضائياً، بلجم الغلاء الفاحش، وردع تجار السوق السوداء ومحاسبة المتلاعبين بسعر الصرف ومهربي المواد الغذائية المدعومة.

وانعكس التفلّت الحاصل في سعر صرف الدولار الذي بات يرتفع في اليوم الواحد أكثر من ألف ليرة لبنانية فوضى عارمة في مختلف القطاعات، تضع البلاد أمام واقع كارثي سبق أن حذّرت منه أخيراً الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا صاحبة المبادرة الإنقاذية المعلّقة حتى الساعة والمعتقلة رهن التجاذبات السياسية بين الأحزاب التقليدية في لبنان.

تهافت على شراء السلع الغذائية

انعكس سعر صرف الدولار بشكل فوضوي على القطاع الغذائي وكذلك الزراعي، ترجم في محال "السوبر ماركت"، بتهافت اللبنانيين على شراء المواد والسلع المدعومة التي يُهرَّب قسم كبير منها إلى الخارج، وصلت إلى حد تسجيل إشكالات بين الزبائن أو مع الموظفين، وكذلك اقتحام محتجين المحال التي تتهم بتخزين البضائع المدعومة في مستودعاتها وحرمان المواطنين منها أو التلاعب بأسعارها في محاولة منهم لإلزامها بعرض المنتجات على الرفوف للبيع.

عمدت محال تجارية إلى اقفال أبوابها، في ظلّ تفلت الصرف وتعدد أسعاره وعدم قدرتها على تسعير البضائع

كذلك، وضع ارتفاع سعر صرف الدولار اليومي التجار أمام فوضى التسعير، إذ بدأت محال تعتمد تسعير البضائع بشكل يومي، أو رفعها أضعافاً، في حين عمدت محال "سوبر ماركت" أخرى الى الإقفال ريثما تستقرّ الأسعار وفي ظلّ النقص الحاد بالبضائع التي أصبح ثلثها غير متوفر، بحسب ما أعلن نقيب أصحاب السوبر ماركت نبيل فهد، كونها لا تستورد ولا تصل إلى رفوف المحال، والذي لوّح أيضاً بانهيار القطاع وإفلاسه في حال استمرّ التدهور الحاصل.

وأشار نقيب مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن السوق يشهد فوضى عارمة يصعب ضبطها نتيجة انفلات سعر صرف الدولار، لافتاً إلى أن الأزمة مرتبطة بعدم وجود دولار لشراء البضائع في واقع يقابه ضغط وتهافت المواطنين لشراء السلع والمواد الغذائية خوفاً من انقطاعها.

وأكد بحصلي ضرورة تحرك المعنيين والقيام بواجباتهم لتثبيت سعر الصرف القادر وحده على إعادة الاستقرار الى القطاع واستئناف نشاط التجار، وتأمين الوضع من جديد.

ويعاني اللبنانيون من صعوبة في إيجاد أصناف كثيرة من المواد الغذائية، وخصوصاً السكر والزيت والحليب وغيرها، ويتوجب عليهم أحياناً التنقل من منطقة إلى أخرى والوقوف في طوابير لإيجاد المنتجات اللازمة والأساسية لحياتهم.

وفي جولة لـ"العربي الجديد" على بعض السوبر ماركت في العاصمة اللبنانية، لوحظت زيادة كبيرة في الأسعار، مقارنة مع الأسبوع الماضي. ويقول صاحب إحدى المحال الغذائية، في بيروت، إنّ "السوق يشهد فوضى غير مسبوقة واختلافاً في الأسعار بين محلٍ وآخر، فالكلّ بات يسعّر كما يريد، ومنهم من يخفّض الأسعار على مواد شارفت صلاحيتها على الانتهاء، وهذا ما لا يدركه الناس ويسارعون لشرائها كونها أرخص، ومنهم من يرفعها لأنه يريد بكل بساطة أن يشتري الدولار بسعر السوق السوداء، بعد توقف الصرافين عن بيعه، وقيام عدد منهم بالإقفال احتجاجاً، لتأمين البضائع، وهو ما يحتّم عليه تسعيرها تبعاً لسعر الدولار اليومي".

تسببت الأزمة النقدية في أزمة حادة بالقطاع الصيدلي، وسط انقطاع للأدوية، لا سيما المرتبطة بعلاج كورونا والأمراض المزمنة

وانعكست أزمة الدولار أيضاً على قطاع الدواجن، إذ يؤكد النقيب موسى فريجي، لـ"العربي الجديد"، أن القطاع يتأثر بدوره بالفوضى الحاصلة، باعتبار أن مستلزمات الإنتاج تستورد من الخارج، سواء على صعيد الذرة أو الصويا واللقاحات والمعقمات والمواد العلفية، وغيرها، ما يؤدي حكماً إلى رفع الأسعار، لأن الشراء يتم بالدولار، الذي يشتريه التجار بسعر السوق السوداء.

قطاع المحروقات خارج نطاق الخدمة

عمدت محطات المحروقات في عددٍ من المناطق اللبنانية، لا سيما جنوباً، إلى الإقفال ورفع خراطيمها أو فتح أبوابها لساعات محدودة في اليوم نتيجة أزمة ارتفاع سعر صرف الدولار والغلاء الأسبوعي لأسعار المحروقات والبنزين بشكل خاص.

ويقول نقيب موزعي المحروقات فادي أبو شقرا لـ"العربي الجديد" إن ارتفاع سعر صرف الدولار أحدث قلقاً عند الجميع وخوفاً لدى مختلف القطاعات، وتعاني بعض الشركات من شحّ في المواد، ما يؤثر على توزيع المحروقات المرتبط أيضاً بتأخر مصرف لبنان في فتح الاعتمادات، كما أن هناك محطات للوقود لا يستوعب مخزونها تهافت المواطنين الذين يتخوفون من انقطاع البنزين فتعمد إلى الإقفال باكراً. وأشار أبو شقرا إلى أنّ أسعار المحروقات ستشهد الأربعاء أيضاً ارتفاعاً إضافياً في المسار الأسبوعي التصاعدي.

من جهة ثانية، انعكست الأزمة النقدية سلباً على قطاع الطاقة، في ظلّ مطالبة شركات أجنبية متعاقدة بمستحقاتها بالدولار الأميركي، إضافة إلى العجز عن تأمين الأموال اللازمة لشراء الفيول، فكان تهديد وزير الطاقة في حكومة تصريف الأعمال ريمون غجر بالعتمة الشاملة، ومن ثم تمرير سلفة وقدرها 200 مليون دولار من البنك المركزي لمؤسسة كهرباء لبنان، علماً أن مطالب التيار الوطني الحر برئاسة النائب ووزير الطاقة السابق جبران باسيل انطلاقاً من القانون الذي تقدّموا به وصلت إلى قيمة مليار دولار، ما رفع المخاوف من محاصصة جديدة وهدر إضافي في قطاع كلف الدولة أكثر من 40 مليار دولار وما يزال البلد يعاني من تقنين كهربائي حادّ.

إضافة الى ذلك، ينعكس ارتفاع سعر صرف الدولار وزيادة أسعار المحروقات على تسعيرة المولدات الكهربائية، بحيث قد ترتفع التعرفة أضعافاً، خصوصاً في حال رفع الدعم عن القطاع، وهو ما حذّر منه رئيس تجمّع أصحاب المولدات عبدو سعادة، الذي قال لـ"العربي الجديد" إن تعرفة الخمسة أمبير قد تصل إلى 600 ألف ليرة، أي 400 دولار تقريباً، وفق سعر الصرف الرسمي 1507 ليرات.

إقفال تجاري مع تهاوي القدرات الشرائية

وعمدت محال تجارية إلى اقفال أبوابها، في ظلّ تفلت الصرف وتعدد أسعاره وعدم قدرتها على تسعير البضائع، مؤكدة رفضها رفع الأسعار على الزبائن، خصوصاً مع تراجع القدرة الشرائية عند المستهلك.

ويقول رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس لـ"العربي الجديد" إن القطاع يعاني من كارثة حقيقية ويتجه إلى الزوال، ونحن ندرس الآن الخطوات التي سنقوم بها، ولا صورة واضحة بعد في ظلّ الفوضى الحاصلة، الوضع خطير جداً.

وأقفلت حوالي ثلاثين في المائة من المؤسسات والمحال التجارية أبوابها نهائياً العام الماضي، ويتوقع معنيون في القطاع أن تضاف النسبة نفسها لهذه السنة في ظلّ تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وانعدام القدرة الشرائية.

انقطاع الأدوية لا سيما المرتبط بكورونا

وتسببت الأزمة النقدية في البلاد بأزمة حادة على القطاع الصيدلي، وهو ما يؤكده نقيب الصيادلة في لبنان غسان الأمين لـ"العربي الجديد" ويقول إنّ استيراد الدواء مرتبط بمصرف لبنان ودعمه الفاتورة الطبية، وهي عملية للأسف يتأخر بها وتنعكس انقطاعاً في الأدوية، ولا سيما المرتبطة بعلاج كورونا والأمراض المزمنة.

ويضيف "رفعت الصيدليات صرخة كبيرة بالتزامن مع ارتفاع سعر صرف الدولار وقد دخلت غرفة الإنعاش باعتبار أن جعالة الصيادلة ما تزال على سعر الصرف الرسمي والتي نطالب بتعديلها نظراً لرأس المال الكبير الذي يتكبّده الصيدلي في عمله، وارتفاع الأكلاف التشغيلية والغلاء المعيشي الذي يطاوله"، مشيراً إلى أن أكثر من 600 صيدلية أقفلت نهائياً وهناك من هاجر تاركاً البلاد نتيجة الأزمات الحادة.

وحذر النقيب من أن القطاع يعيش كارثة حقيقة قد تزداد خطورتها إذا لم يتحرك المعنيون لمعالجة الوضع، سواء بإقرار خطة ترشيد دعم الدواء لإحداث توازن في السوق أو رفع جعالة الصيدلي حتى يتمكّن من التنفس قليلاً.

في السياق، ارتفعت الكلفة الاستشفائية في لبنان بشكل جنوني، وهو ما أشار إليه نقيب المستشفيات الخاصة سليمان هارون، أمس، في مؤتمر صحافي، في حين تعجز مستشفيات عن صيانة معداتها بسبب التكلفة التي لا يمكن تأمين ثمنها نقداً بالدولار أو وفق سعره بالسوق السوداء، كما أن غالبية التجار والمستوردين توقفوا عن قبول الشيكات لتسديد فواتيرهم ويصرون على تسديدها بالعملة النقدية وفوراً عند تسليم البضاعة وهو أمر مستحيل.

وتأثر القطاع الصحي في لبنان بارتفاع سعر صرف الدولار، ولا سيما على صعيد تعرفة الطبيب في العيادات الخاصة، والتكاليف المخبرية والفحوص، وباتت الفاتورة الطبية تفوق قدرة المواطن على التحمّل وأحياناً تمنعه من زيارة الطبيب، بشكل يعرض صحّته للخطر.

احتجاجات في القطاع العام

وبدأت التحركات الاحتجاجية تنفذ من قبل العاملين في القطاع العام الذين يتقاضون رواتبهم بالعملة الوطنية التي خسرت أكثر من ثمانين بالمائة من قيمتها. وقد أطلق قائد الجيش جوزاف عون الصرخة أيضاً، محذراً من تداعيات الأزمة الاقتصادية.

ويقول الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين لـ"العربي الجديد" إن الحد الأدنى للأجور بات يقدّر بـ45 دولاراً أميركياً مع وصول سعر صرف الدولار إلى 15 ألف ليرة لبنانية.

هذا ورفعت الأزمة النقدية والاقتصادية من معدلات الجرائم، وخصوصاً السرقة والنشل، في مؤشر يحذر خبراء أمنيون من زيادة حدّته وانفلات الوضع الأمني في ظل استمرار التدهور المعيشي وغياب الاستقرار السياسي وانسداد الأفق وانعدام الحلول الطارئة السريعة.

وفشلت إجراءات الاجتماع الأمني والقضائي والمالي والاقتصادي الذي عقد في قصر بعبدا مقرّ الرئاسة اللبنانية، في لجم الارتفاع الجنوني للدولار، سواء على صعيد إقفال منصات أو تطبيقات تتلاعب بسعر الصرف، أو توقيف صرافين غير مرخّصين، لا بل على العكس، سجّل ما يزيد عن خمسة آلاف ليرة لبنانية، خلال هذه الفترة.

المساهمون