ربما تشكل رئاسة دونالد ترامب الثانية في حال فوزه أخطاراً جسيمة على الولايات المتحدة. ولا يستبعد محللون أن تقود إلى خسارة أميركا موقع الدولة العظمى في العالم. ويرى هؤلاء أن فوزه قد يؤدي إلى انفجار الدين العام الأميركي الذي تجاوز حالياً 35 تريليون دولار، وتهديد التجارة العالمية والمنظمات التي تحكمها مثل منظمة التجارة العالمية التي تحدد الرسوم الجمركية وقوانين التجارة بين الدول وتآكل المعايير الديمقراطية، وقد تتمدد مخاطر فوزه إلى تهديد مكانة الدولار "عملة احتياط دولية"، حيث إنه يخطط للتدخل في استقلالية مجلس الاحتياط الفدرالي "البنك المركزي الأميركي" الذي يدير لوحده السياسة النقدية والاشراف على القطاع المصرفي.
ولا يخفي المرشح الجمهوري دونالد ترامب عداءه السافر لاستقلالية البنك الفيدرالي، فقبل أيام قال إنه يرغب في أن يكون له رأي مؤثر في صنع القرار بالاحتياطي الفيدرالي حال فوزه في الانتخابات المقبلة. ودافع منتصف الشهر الجاري خلال حدث استضافه نادي شيكاغو الاقتصادي عن وجهة نظره بأنه يجب أن يؤثر على قرارات الاحتياطي الفيدرالي في حال عودته للبيت الأبيض لولاية ثانية، لكن دون إعطاء أوامر للبنك. وفي سبتمبر الماضي اتّهم ترامب البنك المركزي بأنّه "مسيّس"، وذلك عقب خفض البنك سعر الفائدة بشكل كبير قبل بضعة أسابيع من الانتخابات الرئاسية.
في عام 2019، حينما كان رئيساً للولايات المتحدة، سأل ترامب في تغريدة على تويتر " X حالياً": "من هو عدونا الأكبر، جيروم باول ( رئيس البنك الفيدرالي) أم الرئيس الصيني شي جين بينغ؟" وقال في لقاء مع وكالة بلومبيرغ، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، إنه يفهم السياسة النقدية بشكل أفضل من رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي، جيروم باول، ويتوقع أن يكون له رأي في أسعار الفائدة حتى لو لم يتمكن، بوصفه رئيسا، من إخبار البنك المركزي بما يجب عليه فعله.
ونظرًا لولاية أخرى في البيت الأبيض تتوقعها الأسواق، فقد يكون ترامب أكثر طموحاً في القضاء على استقلالية البنك المركزي الأميركي أو إقالة رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي أو حتى خفض رتبته أو ربما ترشيح خليفة له أكثر امتثالًا لأوامره عندما تنتهي ولاية باول في العام 2026.
و
يلعب الاحتياط الفيدرالي دورًا حاسمًا في إدارة الاقتصاد الأميركي من خلال السياسة النقدية، والتي تشمل تحديد اتجاهات أسعار الفائدة ومعدل التضخم وتنظيم عرض الكتلة النقدية وسوق العمل. ويرى اقتصاديون أن أي تدخل من قبل شخصية سياسية مثل دونالد ترامب، يمكن أن تكون له آثار سلبية كبيرة على كل من الاقتصاد والأسواق المالية.
ووفق الأعراف المصرفية، يعمل مجلس بنك الاحتياط الفيدرالي بشكل مستقل عن النفوذ السياسي لضمان اتخاذ قرارات السياسة النقدية بناءً على البيانات الاقتصادية بدلاً من الضغوط السياسية. ويعتبر هذا الاستقلال أمراً حيوياً للحفاظ على المصداقية والاستقرار في الأسواق المالية الأميركية والعالمية. وعندما تتدخل شخصية سياسية أو تحاول التأثير على سياسات بنك الاحتياط الفيدرالي، فإنها يمكن أن تقوض هذا الاستقلال المستقر عليه منذ سنوات طويلة، بل وتتفاخر الولايات المتحدة دوما بالاستقلالية الكبيرة التي يتمتع بها الفيدرالي في إدارة السياسة النقدية منفردًا.
ولكن ماهي المخاطر التي يمثلها ترامب في حال فوزه وتدخله في إدارة السياسة النقدية ومزاحمة البنك الفيدرالي؟
يرى اقتصاديون أن هنالك ستة أخطار يمثلها احتمال تدخل ترامب بسياسة الاحتياط الفيدرالي في حال فوزه بالانتخابات المقبلة المقررة يوم الخامس من نوفمبر، أولها فقدان المصداقية: إذا اعتبر بنك الاحتياط الفيدرالي متأثراً بدوافع سياسية، فإن مصداقيته قد تتضاءل. ويعتمد المستثمرون على التزام البنك المركزي بالسيطرة على التضخم ودعم النمو الاقتصادي. وقد يؤدي فقدان المصداقية إلى زيادة التقلبات في الأسواق المالية حيث يعيد المستثمرون تقييم توقعاتهم فيما يتعلق بالسياسة النقدية المستقبلية.
في هذا الشأن، قالت وزيرة الخزانة الأميركية الحالية والرئيسة السابقة لبنك الاحتياط الفدرالي، جانيت يلين، في تعليقات في يوليو العام 2020، "بنك الاحتياط الفيدرالي ينظر للحفاظ على المصداقية والفعالية في إدارة مستويات التضخم والتوظيف أمرًا بالغ الأهمية". وحذرت يلين من أن أي تدخل من قبل الرئيس في سياسات الفيدرالي يمكن أن يقوض ثقة الجمهور في قرارات البنك المركزي الأميركي.
من جانبه يؤكد روبرت باربرا، مدير مركز الاقتصاد المالي بجامعة جونز هوبكنز، في تعليق نقلته مجلة "تايم" في 12 أغسطس/آب الماضي، أن السماح للرؤساء بممارسة المزيد من السيطرة على قرارات أسعار الفائدة يمكن أن يشكل سابقة خطيرة. وقد يشجع هذا التغيير الرؤساء الحاليين على الدفع باتجاه سياسات تفضل المكاسب الاقتصادية قصيرة المدى خلال سنوات الانتخابات، مما قد يعرض الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل للخطر.
في ذات الصدد، قال رئيس البنك الفيدرالي الأميركي الأسبق، بن برنا نكي، في تعليقات سابقة، إن التدخل المباشر في السياسة النقدية يؤدي إلى أخطار كبيرة، بما في ذلك زعزعة استقرار الأسواق المالية وتآكل استقلال بنك الاحتياط الفيدرالي. وشدد برنانكي في تعليقات في 20 أغسطس/ آب 2020، على أن البنك المركزي الذي يخضع لتأثير سياسي قد يواجه صعوبات في الاستجابة بفعالية للأزمات الاقتصادية.
ويرى محللون أن الأسواق المالية تتفاعل بسرعة مع الأخبار المتعلقة بتغيرات أسعار الفائدة الأميركية أو التحولات في اتجاه السياسة النقدية. وإذا مارس ترامب في حال فوزه الضغوط على البنك الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة أو تبني سياسات أكثر تيسيراً، فقد يؤدي ذلك إلى ارتفاعات قصيرة الأجل في السوق، ولكنه قد يؤدي أيضاً إلى خلق حالة من عدم الاستقرار على المدى الطويل إذا ارتفعت توقعات التضخم نتيجة لذلك.
في هذا الشأن أشار مارك زاندي، كبير الاقتصاديين في وكالة "موديز أناليتيكس"، إلى أن خطاب ترامب ضد بنك الاحتياط الفيدرالي يمكن أن يخلق حالة من عدم اليقين في الأسواق المالية. وحذر في تعليقات في 13 أغسطس الماضي من أنه إذا رأى المستثمرون أن بنك الاحتياط الفيدرالي متأثر بالضغوط السياسية، فقد يؤدي ذلك إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض للولايات المتحدة وانخفاض النمو الاقتصادي. وشدد زاندي في تعليقات نقلها موقع " ماركت قينز" الأميركي، على أهمية الحفاظ على بنك مركزي مستقل في الولايات المتحدة من أجل الإدارة الاقتصادية الفعالة.
كما يمكن أن يؤدي الضغط السياسي على بنك الاحتياط الفيدرالي إلى سياسات نقدية مفرطة التيسير والتي تحفز النمو الاقتصادي على المدى القصير، ولكنها تخاطر بإشعال التضخم. وإذا ارتفع التضخم فوق المستويات المستهدفة (حوالي 2%)، فقد يجبر ذلك بنك الاحتياط الفيدرالي على اتخاذ إجراءات تشديدية صارمة في وقت لاحق، وهو ما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الاقتصاد الأميركي والأسواق المالية في "وول ستريت".
على صعيد ثقة المستثمر، يرى اقتصاديون، أن التدخل السياسي في قرارات البنك الفيدرالي يمكن أن يؤدي إلى تآكل ثقة المستثمرين ليس فقط في الأسواق الأميركية فحسب ولكن أيضًا في الدولار بما هوعملة احتياط عالمية. وإذا اعتقد المستثمرون أن السياسة النقدية الأميركية تخضع لأهواء سياسية، فقد يبحث المستثمرون عن بدائل، مما يؤدي إلى هروب رؤوس الأموال من سوق "وول ستريت" وسندات الخزانة الأميركية وحدوث تراجع كبير بقيمة الدولار.
من ناحية تداعيات التدخل على النمو الاقتصادي على المدى الطويل، يمكن للتدخل المستمر أن يعطل التخطيط الاقتصادي طويل المدى للشركات والمستهلكين على حد سواء. وتعتمد الشركات على أسعار فائدة مستقرة لاتخاذ قرارات الاستثمار. ويمكن أن يؤدي عدم اليقين بشأن إجراءات بنك الاحتياط الفيدرالي المستقبلية إلى إعاقة خطط توسيع الأعمال والإنفاق الاستهلاكي.
ووفق لورانس سمرز، وزير الخزانة الأميركية الأسبق والاقتصادي بجامعة هارفارد، فإن تدخلات ترامب إذا حدثت يمكن أن تشوه قرارات السياسة النقدية التي يتخذها بنك الاحتياط الفيدرالي. وحذر في تعليقات نقلتها وكالة بلومبيرغ في الخامس من مايو الماضي، من أنه إذا بدأت الاعتبارات السياسية في إلقاء ظلالها على الأساسيات الاقتصادية في عملية صنع القرار في البنك المركزي، فقد يؤدي ذلك إلى نتائج سيئة فيما يتعلق بالسيطرة على التضخم والصحة الاقتصادية العامة.
ويلاحظ أن الاقتصاد الأميركي مترابط مع الأسواق العالمية؛ ومن الممكن أن يكون لعدم الاستقرار الناجم عن التدخل الملحوظ في بنك الاحتياط الفيدرالي تأثيرات مضاعفة في جميع أنحاء العالم، مما يؤثر على الاستثمارات الأجنبية والعلاقات التجارية والاحتفاظ بالدولار عملة رئيسية في سلة الاحتياطات الدولية.
ومثالاً على ذلك، عندما يرتفع التضخم بسبب صدمة غير متوقعة، كما حدث أثناء جائحة كورونا، فإن مصداقية بنك الاحتياط الفيدرالي تعني أنه يمكن إعادة الأسعار تحت السيطرة مع زيادات صغيرة نسبياً في أسعار الفائدة، وبالتالي زيادات مؤقتة ومتواضعة نسبياً في البطالة. وفي غياب هذه الثقة، يتعين على السياسة النقدية أن تستجيب بقوة أكبر، فتدمر الناتج المحلي والوظائف على نطاق أوسع كثيراً. والبديل هو السماح للتضخم بالبقاء مرتفعاً، وهو ما يضر بالعمال والمستهلكين في حد ذاته في حين يؤدي فقط إلى تأجيل الحساب النهائي.