طلبت الهيئة الاتهامية في بيروت، برئاسة القاضي ماهر شعيتو، التنحّي عن النظر بملف حاكم "مصرف لبنان" المركزي السابق رياض سلامة وذلك إثر دعوى المخاصمة التي تقدّم بها الأخير أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، المتوقفة عن النظر في الدعاوى منذ أكثر من عام ونصف العام، وتعدّ من أبرز أسباب عرقلة التحقيق بانفجار مرفأ بيروت.
وعرضت الهيئة الاتهامية في كتاب لها اليوم، الخميس، أمام الرئيس الأول لمحكمة استئناف بيروت، التنحّي "نظراً لما يخلّفه استمرار الواقع الراهن من حالة حرج لدينا ولا سيما في ضوء ماهية الدعوى"، وفق تعبيرها.
وربطت الهيئة خطوتها أيضاً بـ"حسن سير العدالة، وبهدف الحؤول دون عرقلة سير التحقيقات في هذه الدعوى وتأخير مسارها خصوصاً في ظلّ عدم اكتمال تشكيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز".
وأوّل من أمس الثلاثاء، رفعت الهيئة الاتهامية في بيروت يدها عن ملف التحقيق مع رياض سلامة بقضية التحويلات المالية لشركة "فوري" (الوهمية التي يملكها شقيقه رجا)، ومتابعة النظر بشأن توقيفه من عدمه، وذلك بعد تبلّغها واحدة من ثلاث دعاوى مخاصمة تقدّم بها وكيل سلامة القانوني، المحامي حافظ زخّور أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز ضدّ الدولة اللبنانية، لعلّة ما اعتبره اقتراف القضاة في الهيئات الاتهامية الثلاث "أخطاءً جسيمة".
ملف الادعاء اللبناني على سلامة يشمل جرائم الرشوة والتزوير واستعمال المزوّر وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتهرّب الضريبي
ولم تكن خطوة سلامة متوقعة، وتخطّت كلّ السيناريوهات التي رُجِّحت للجلسة، يتقدّمها اصدار مذكرة توقيف بحقه بالجرائم المالية المنسوبة اليه، علماً أن تسريبات اعلامية من مقرّبين له، لمحت إلى احتمال حضوره إلى قصر العدل في بيروت، ومثوله أمام الهيئة الاتهامية، وبيده مفاجأة للقضاة، قبل أن يظهر وكيله القانوني، الثلاثاء، ومعه دعوى مداعاة الدولة.
وكانت رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل، القاضية هيلانة إسكندر، تقدّمت من الهيئة الاتهامية، بطلب توقيف سلامة، بعدما استأنفت قرار قاضي التحقيق الأول في بيروت، شربل أبو سمرا، بترك سلامة رهن التحقيق، فيما تغيّب سلامة عن الجلسة التي كانت حدّدت له في 9 أغسطس/ آب، علماً أن آخر ظهور له كان لدى مغادرته مقرّ مصرف لبنان، عقب انتهاء ولايته في 31 يوليو/تموز الماضي.
تجدر الإشارة، إلى أنه بعكس رفضه المثول أمام بعض القضاة، كان سلامة حضر الاستجواب أمام القاضي أبو سمرا، مقابل ما حُكيَ عن ضمانات أعطيت له بعدم توقيفه، وذلك بملف الادعاء اللبناني، بجرائم الرشوة والتزوير واستعمال المزوّر وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتهرّب الضريبي، وقرّر القاضي، تركه رهن التحقيقات من دون أن يصدر مذكرة توقيف وجاهية بحقه، بينما اكتفى بحجز جوازي سفره، اللبناني والفرنسي، وأصدر قراراً بمنعه من السفر.
تزيد الخشية من دخول الملف مرحلة الجمود السيناريو الشبيه الذي حصل في ملف تفجير المرفأ، الذي مرّ عليه 3 سنوات من دون محاسبة أي مسؤول
هذه التطوّرات أثارت بلبلة كبيرة في لبنان، بحيث جرى وضعها في إطار الانقلاب الذي أحدثه سلامة، وفي خانة أكبر الفضائح التي شهدها قصر العدل في بيروت، خصوصاً، أن ما حصل سيطوي لفترة زمنية قد تطول، صفحة توقيف حاكم مصرف لبنان السابق، وهو محور تحقيقات محلية وخارجية، والمطلوب والمعاقب دولياً، ويعطّل مسار محاسبته، ولا سيما في ظلّ نظام لبناني يعبّد طريق الإفلات من العقاب.
وتزيد الخشية من دخول الملف مرحلة الجمود السيناريو الشبيه الذي حصل في ملف تفجير المرفأ، الذي مرّ عليه 3 سنوات من دون محاسبة أي مسؤول، والتحقيقات لا تزال معرقلة، بفعل كمّ الدعاوى التي رفعت من جانب المدعى عليهم بالقضية، بينها دعوى مخاصمة الدولة، وغياب التشكيلات القضائية، سيما منها عدم تشكيل أعضاء الهيئة العامة لمحكمة التمييز، للبت بالدعاوى المرفوعة أمامها.
وقال رئيس لجنة الإدارة والعدل البرلمانية، النائب جورج عدوان، في منشور عبر حسابه على منصة "أكس"، إن ما حصل الثلاثاء في جلسة الهيئة الاتهامية أثناء النظر في الادعاء على سلامة فضيحة من أكبر الفضائح التي عرفها قصر العدل، معتبراً، أن "هذه الفضيحة تستوجب التحرك الفوري لوزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى والتفتيش القضائي والقضاة ونقابة المحامين للتوصل إلى قرارات حاسمة".
وأضاف عدوان "في مطلق الأحوال، سنُطلع الرأي العام على الوقائع والتفاصيل الصادمة والمثبتة كافة".
هذه الفضيحة تستوجب التحرك الفوري لوزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى والتفتيش القضائي والقضاة ونقابة المحامين للتوصل الى قرارت حاسمة.
— Georges Adwan Official (@GeorgesAdwan) August 31, 2023
وفي مطلق الأحوال سنُطلع الرأي العام على كافة الوقائع والتفاصيل الصادمة والمثبتة!
(2/2)#جورج_عدوان
من جانبه، قال المرصد القضائي في "المفكرة القانونية"، في بيان، إن "سلامة لم يكتفِ بمخاصمة القضاة الثلاثة الذين يشكّلون الهيئة المناوبة برئاسة القاضية ميراي ملاك، التي أصدرت قرار قبول الاستئناف المقدّم من هيئة القضايا وتعيين موعد جلسة للتحقيق معه، إنما تقدّم بدعويي مخاصمة بوجه الهيئتين الأخريين، إحداهما مناوبة برئاسة القاضي سامي صدقي، والأخرى أصيلة برئاسة القاضي ماهر شعيتو".
واعتبر المرصد أن ذلك "يشكل محاولة لإغلاق جميع الأبواب في وجه المضي قدماً بالتحقيق، نظراً لتعطيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز تبعاً لفقدان نصابها وتعطيل التشكيلات القضائية".
وقال المرصد إن "قاضي التحقيق الأول في بيروت بالإنابة شربل أبو سمرا كان اتخذ في 2 أغسطس/آب الجاري، قراراً بإرجاء جلسة التحقيق مع سلامة من دون توقيفه، الأمر الذي اعتبرته هيئة القضايا قراراً ضمنياً بترك سلامة، ما دفعها إلى استئناف القرار أمام الهيئة الاتهامية في بيروت التي بدورها قبلت الاستئناف في 3 أغسطس، قبل أن ترفع يدها عن الملف اليوم".
وأشار المرصد إلى أن "ائتلاف استقلال القضاء كان تقدّم بالتعاون مع عددٍ من النواب باقتراح قانون لتعديل المادة 751 من أصول المحاكمات المدنية التي تسمح بوقف الدعاوى بمجرّد تقدّم أحد الخصوم بدعوى لمخاصمة الدولة، نظراً لاستخدامها من قبل أصحاب النفوذ لتعطيل التحقيقات بحقهم، إلا أن مجلس النواب لم ينظر بعد في هذا الاقتراح الذي من شأنه ضمان عودة سير العدالة في العديد من الملفات، ومنها التحقيقات في جريمة المرفأ وفي الجرائم المالية".
من جانبه، رأى المرصد الأوروبي للنزاهة في لبنان أن ما حصل خلال جلسة الهيئة الاتهامية فضيحة، فعوضاً عن الاتجاه لإصدار مذكرة توقيف بحقه، تم كف يد الهيئة الاتهامية في بيروت عن الملف ما يعني أنه عاد إلى الأدراج.
وشدد المرصد على أنه مهما حاول شركاء سلامة إنقاذه، وبالتالي، إنقاذ أنفسهم، سيقع هو وسيقعون معه، كما أسف للدور الذي يلعبه القضاء اللبناني في هذه القضية والواضح أنه لمصلحة سلامة وليس اللبنانيين.
وقال الخبير الدستوري والمحامي سعيد مالك لـ"العربي الجديد"، إن طلب التنحّي الذي تقدّم به القاضي ماهر شعيتو عن الهيئة الاتهامية في بيروت، يأتي سنداً لأحكام المادة 122 من قانون أصول المحاكمات المدنية، التي تنصّ على أنه "يجوز للقاضي إذا استشعر بالحرج أن يعرض تنحّيه"، لكن القراءة العملية لطلبه تؤكد أن الهدف منه التهرّب ورفع المسؤولية عمّا اقترفه شعيتو من هفوات وثغرات ضمن إطار أدائه لمهامه بالطعن المقدَّم أمامه من قبل دائرة القضايا في وزارة العدل.
ويشبّه مالك بدوره مصير ملف سلامة بقضية المرفأ، فهذا هو الواقع برأيه، لأن أي هيئة جديدة ممكن أن تعيَّن مستقبلاً ستُقابَل بالأسلوب نفسه الذي اتبعه سلامة لناحية تقديم طلب المخاصمة، وبالتالي وقف أفعال أو أعمال هذه الهيئة عملاً بأحكام المادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية، التي أراد المشترع منها أن تكون لحماية المدعى عليه من إمكان تجاوز القاضي صلاحياته، لكن يتم استخدامها تعسفاً من قبل السياسيين، بهدف عرقلة مسار العدالة، من خلال تسييسها وسوء النية في تفسيرها.