تلوح في الأفق اضطرابات اجتماعية واسعة في باكستان، على خلفية الصعوبات المعيشية المتأججة، بفعل الغلاء الذي وصل إلى ذروته، وسط إذعان الحكومية لاشتراطات صندوق النقد التي تتضمن زيادة الضرائب وإلغاء الدعم.
وأصبح الوفاء بالاحتياجات الأساسية بالنسبة للغالبية العظمى في باكستان شبه مستحيل، مع تصاعد معدل التضخم إلى أعلى مستوى له في نحو نصف قرن، مع قيام الحكومة برفع أسعار الطاقة والضرائب وتعويم سعر العملة الوطنية وزيادة أسعار الفائدة إلى أعلى مستوى في أكثر من ربع قرن، للوفاء بشروط قاسية لصندوق النقد الدولي، من أجل الحصول على حزمة تمويلية متعثرة، يؤكد محللون أنها لن تبعد شبح الإفلاس عن الدولة المثقلة بالديون.
ويبدو أن احتمال الفوضى الاجتماعية أصبح قريباً، بالنظر إلى وضع شرائح مختلفة من المجتمع، تقول إنها كانت حتى سنوات قليلة ماضية تتمكن من المناورة في الإنفاق المعيشي من أجل البقاء على قيد الحياة، لكن الأمر يبدو بالغ الصعوبة الآن، إذ تضطر الكثير من الأسر إلى تقليص الطعام إلى وجبتين يومياً وعدم القدرة على العلاج والتخلي عن شراء ملابس جديدة أو السفر بغية زيارة الأقارب.
وتحوّل الكثير من بنود الإنفاق إلى خانة الرفاهية مع انحسار القدرات الشرائية لمعظم المواطنين وسط تضخم غير مسبوق، وفق تقرير لصحيفة داون الباكستانية. وتسارعت أسعار المستهلكين في فبراير/ شباط الماضي إلى 31.55%، وهي أعلى نسبة منذ عام 1975، وفقاً لبيانات بنك باكستان المركزي.
كذلك بلغ التضخم قصير الأجل 41.07% في الأسبوع المنتهي في الثاني من مارس/ آذار الجاري، وسط توقعات بمزيدٍ من القفزات خلال الأشهر المقبلة، مع استمرار الإجراءات الحكومية الهادفة لتحصيل المزيد من الإيرادات عبر زيادة الضرائب على الاستهلاك وإلغاء الدعم، استجابة لصندوق النقد الدولي، الذي يرى أن هذه الإجراءات من شأنها إنقاذ البلاد اقتصادياً، بينما يحذر محللون من خروج الأمور في الدولة عن السيطرة، إذ يتجاوز الفقراء ثلث السكان البالغ إجمالي عددهم 231.4 مليون نسمة.
ونهاية الأسبوع الماضي، رفع البنك المركزي سعر الفائدة القياسي بواقع 300 نقطة أساس دفعة واحدة (3%)، متجاوزاً كل التوقعات، لتصل إلى 20% وهي الأعلى منذ يونيو/ حزيران 1997، وفق وكالة بلومبيرغ الأميركية، مبرراً ذلك بكبح جماح التضخم المرتفع، لكن ذلك جاء ضمن اشتراطات صندوق النقد الدولي، بغية جذب المزيد من التمويلات إلى أدوات الدين الحكومية، في حين أن زيادة أسعار الفائدة من شأنها دفع التضخم إلى معدلات أعلى كما ستزيد من أعباء الديون الحكومية بينما يتعثر البلد بالأساس في الوفاء بالتزاماته القائمة.
وتُقر لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي بأن التضخم سيرتفع أكثر في الأشهر القليلة المقبلة مع ظهور تأثير رفع أسعار الفائدة، لكنها ترى أن التضخم سيعاود الانخفاض بوتيرة تدريجية بعد ذلك. في الأثناء يجهر مواطنون كثيرون بالشكوى من الغلاء المتعاظم، حيث أصبح معظم الدخل موجهاً إلى الوجبات الأساسية.
ويقول محمد خان، الذي يعمل في نقل السلع على عربة جر يدوية في سوق بمدينة لاهور ثاني أكبر مدن باكستان ويعيل أسرة مكونة من ستة أفراد، إن تكلفة الوجبات الغذائية تتجاوز ما يتحصل عليه من عمله. يضيف خان، وفق صحيفة داون "نحتاج إلى 20 قطعة خبز على الأقل مرتين يومياً، والتي تكلف 600 روبية (2.15 دولار) لهذا العنصر الغذائي الأساسي، فيما تتراوح جميع أسعار البقول بين 300 روبية و450 روبية للكيلوغرام. أضف الضروريات الأخرى (السمن والملح والفلفل والكزبرة وغيرها)، ما يجعل الوجبات العائلية الأساسية تكلفني أكثر من 1000 روبية.. أنا في دين دائم لتلبية متطلبات وجبتين في اليوم".
ويؤكد العمال ذوو الدخل المنخفض أن عليهم التخلي عن الاحتياجات الأساسية لتوفير النفقات للطعام والبقاء على قيد الحياة. فقد ارتفع سعر دقيق القمح بنسبة 100% في أحدث دورة من التضخم المرتفع. جزء مأساوي آخر من التضخم الذي يعصف بالبلاد هو تباينه من منطقة إلى أخرى في البلد، ففي لاهور بإقليم البنجاب (شرق باكستان)، تبلغ تكلفة كيس الدقيق زنة 20 كيلوغراماً حوالي 1750 روبية، في حين يصل إلى ضعف هذا المبلغ في معظم إقليم بلوشستان (غرب).
ويدفع تغيير بنود الإنفاق الآخذ في الاتساع بين السكان نحو ركود سلع أضحت في خانة الكماليات والرفاهية. وأغلقت إحدى العلامات التجارية الرئيسية لمكيفات الهواء 11 منفذاً في مدينة لاهور التي تصنف بأنها إحدى أغنى مدن باكستان، وسط انخفاض المبيعات، ما ينعكس سلباً على وضع العمالة في البلد وتزايد معدلات البطالة.
كما أن الإصابة بالمرض تكاد يكون بمثابة حكم بالإعدام على الفقير في ظل الظروف الحالية، وفق نياز أحمد، الذي يعمل في الشحن في مدينة فيصل أباد في إقليم البنجاب، مع ارتفاع أسعار الأدوية مع تهاوي قيمة الروبية، لتصل إلى 285 للدولار الواحد مقابل 217 للدولار في سبتمبر/ أيلول الماضي خاسرة نحو 30% من قيمتها.
وفي مقابل تحذيرات اقتصاديين وسياسيين من تداعيات الإذعان لشروط صندوق النقد الدولي على الوضع الاقتصادي والاجتماعي لملايين الأسر وبالتالي استقرار البلاد، قال رئيس الوزراء شهباز شريف خلال اجتماع مع كبار مسؤولي الأمن في مكتبه في إسلام أباد أذاعه التلفزيون مباشرة، في الرابع والعشرين من فبراير/ شباط الماضي، إن بلاده مضطرة لقبول الشروط القاسية للصندوق من أجل الحصول على طوق نجاة للاقتصاد، مضيفاً: "مضطرون لأن نقبل، مرغمين، الشروط الصارمة لاتفاق صندوق النقد الدولي".
وترى مؤسسات تصنيف ائتمان دولية أنه حتى مع حصول باكستان على حزمة تمويل من صندوق النقد فإن شبح الإفلاس لن يفارقها. وتكافح باكستان للحصول على حزمة من صندوق النقد بقيمة 1.1 مليار دولار، كانت قد توقفت منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي بسبب عدم تلبية الشروط، وهي من ضمن اتفاق جرى إبرامه عام 2019 للحصول على قرض بقيمة 6.5 مليارات دولار.
وذكرت وكالة "موديز" في مذكرة الأربعاء الماضي أن التقديرات تشير إلى أن احتياجات التمويل الخارجي الباكستانية تبلغ نحو 11 مليار دولار للعام المالي الحالي الذي ينتهي في يونيو/ حزيران المقبل، بما في ذلك 7 مليارات دولار في صورة مدفوعات ديون خارجية.
وفي الأثناء، يستعد الدائنون لاحتمال تخلف الدولة عن السداد. وقال جوني تشين، مدير الصندوق في شركة "ويليام بلير انفستمنت" في سنغافورة، والذي خفض التعرّض لديون باكستان مؤخراً، وفق وكالة بلومبيرغ :"نقوم بالفعل حالياً بإدارة المخاطر، بحيث لا نتأثر بشكل كبير في حالة تحقق المخاوف".
ووصلت احتياطات النقد الأجنبي إلى 2.9 مليار دولار، وهو ما يكفي لتغطية الواردات الخارجية لمدة لا تتجاوز 20 يوماً، وفقا لخبراء اقتصاديين. وتعدّ باكستان من أكثر الدول في آسيا التي تعاني من الديون الخارجية بعد سريلانكا، حيث بلغت 128 مليار دولار حتى مارس/ آذار 2022، وفقاً لشركة "سي إي آي سي داتا" البريطانية المتخصصة في البيانات الاقتصادية. وبلغت ديون صندوق النقد الدولي فقط لدى الدولة 17.7 مليار دولار بنهاية مارس/ آذار 2022.
وبحسب محللين، فإن مدفوعات الديون الخارجية الباكستانية ستبقى مرتفعة للأعوام القليلة المقبلة، كما أن خيارات التمويل لما بعد يونيو/حزيران 2023 غير مؤكدة بشكل كبير. وتتراوح الاحتياجات المالية الخارجية لباكستان للعام المالي المقبل الذي يبدا في الأول من يوليو/تموز بين 35 و36 مليار دولار، بما في ذلك 25 و26 مليار دولار لسداد الديون الخارجية، و10 مليارات دولار للعجز التقديري في الحساب الجاري.
وتبدو القروض التي تحصل عليها الدولة هزيلة أمام الديون الجامحة، إذ حصلت الدولة في فبراير/ شباط الماضي على قرض بقيمة 700 مليون دولار من بنك التنمية الصيني، حسبما أعلن وزير المالية إسحاق دار، نهاية الأسبوع الماضي. لكن المسؤولين الباكستانيين يراهنون على تحصيل المزيد من القروض بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، حيث تعتمد جميع التسهيلات المالية الأخرى على إيماءة واحدة من المقرض الذي يتخذ من واشنطن مقراً له، وفق صحيفة "ذا نيوز إنترناشيونال" الباكستانية.
في الأثناء، توقع مسؤول حكومي كبير "وضع اللمسات الأخيرة على أرقام الإيرادات والنفقات للأشهر الأربعة المقبلة خلال المحادثات التي ستستأنف اليوم الاثنين مع صندوق النقد"، مشيراً إلى أنه من المتوقع صرف 1.1 مليار دولار لباكستان قريباً، فضلاً عن 3 مليارات دولار من المملكة العربية السعودية والإمارات قريباً، وهو ما سيدعم احتياطي النقد الأجنبي للدولة.