في بلد أُغلقت فيه كافة منافذ التعبير الحر بدواعي شحذ المؤامرات وبث التشائم، أصبح بث التفاؤل الكاذب، المعروف شعبيًا بتسميات أخرى، عملاً "وطنيًا" (!)، فلا عجب إذاً أن تمطرنا الدعاية الرسمية بكثير من الأباطيل والأوهام حول انخفاض مخاطر الدين الخارجي المصري، الذي تضخّم مؤخرًا بشكل يثير القلق، حتى وصفت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية مصر مؤخرًا بأنها أحد أكثر البلدان المُهددة بمخاطر الائتمان وعدم القدرة على السداد، الأمر الذي تفاقم بعد كورونا بالأخص.
وفي سياق تلك الدعاوى التي تحاول التهوين من تلك المخاطر، عادًة ما يتم الدفع ببعض الأوهام، سنحاول مناقشة خطوطها العريضة في هذه العُجالة.
أول تلك الأوهام هو ذلك الدفع بفكرة أن الاقتصادات الصاعدة تقترض كثيرًا، الأمر الذي لا يمكن أخذه على عواهنه، كما أنه لا يلغي ولا يقلل من خطورتها على تلك الاقتصادات، وإلا ما سمعنا بالأزمات كل يوم، كما أن هناك حدًا آمنًا للاقتراض والديون لا يصحّ تجاوزه بأي حال من الأحوال.
فضلاً عن أن من المهم قبل الاقتراض دراسة الطاقة الاستيعابية للاقتصاد المصري على الاقتراض، أى مدى قدرته على السداد الآمن لتلك القروض وفوائدها، وترتبط بذلك دراسة هياكل الاقتصادات قبل مقارنتها ببعضها اعتباطًا.
فكيف تُقارن مصر بهيكلها الإنتاجي ضعيف التصنيع بهذه النمور الصناعية الجديدة، ناهيك عن الدول المتقدمة التي وضعت معيار الديون الأمثل وفقًا لأوضاعها المختلفة تمامًا، خصوصاً إذا كانت الخبرة التاريخية لمصر مع القروض والديون الخارجية لا تبشر بخير على الإطلاق، ناهيك عن محدودية فائدتها نتيجة سوء الاستخدام.
فرغم أن مصر كانت ولا تزال من أكثر دول العالم تلقيًا للمعونات والقروض المُيسّرة وغير المُيسّرة منذ أواسط السبعينيات، لم يتجاوز اقتصادها عنق الزجاجة الطويل الذي لا يريد أن ينتهي بعد أربعين عامًا من برامج الانفتاح والإصلاح!
ولأن التجربة خير برهان، فقد رد الواقع نفسه على الوهم الأول، حيث وقعت معظم هذه الاقتصادات الصاعدة في "مصيدة الديون" الشهيرة للدول متوسطة الدخل، في غضون عقدين أو ثلاثة من بداية تجاربها التنموية المستندة إلى المديونية، والبقية في الطريق مع أزمات نقد وتجارة طاحنة، وذلك رغم ما حققته تلك الاقتصادات من نجاحات حقيقية على صعيد التصنيع والتصدير والتقنية، بعدما نجحت في تهيئة أسواقها وأراضيها الوطنية باستقرار سياسي وبنية قانونية وتنظيمية وتعليمية وتدريبية منضبطة وديناميكية قادرة على جذب الاستثمارات حقًا والتفاعل معها إيجابًا.
فما بالنا بما سيواجهه اقتصاد لا يزال يضع معظم قروضه في مشاريع البنية التحتية والقطاعات الاستخراجية والخدمية، فيما لا تزال قدرته على جذب الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية شديدة المحدودية، مع كل ما يعانيه من إشكالات مؤسسية وقانونية وسياسية كفيلة بردع أي استثمار جاد طويل الأجل.
دفع ثان يزعم أن الدين الخارجي المصري الحالي لا يزال مُنخفض المخاطر حجمًا وتصنيفًا، الأمر الذي لا يمكن وصفه سوى بالعمى عن الواقع، ووصف قائله بالـ"حافظ مش فاهم"، فالمسألة ليست مجرد تناسب حجمه المطلق مع النسب "التحكّمية" المعروفة دوليًا، ولا درجة تيسير الشروط واستطالة الآجال الزمنية للاستحاق، بل أولاً وقبل كل شيء ضعف الموارد المُتوقعة -لاقتصاد شبه صناعي- التي يمكن أن تسهم في سداده في الأفق المنظور.
وثانياً، وهو الأكثر خطورة، وتيرة تطوره السريعة المُقلقة في السنوات الأخيرة، فقد زاد الدين العام الخارجي وفق تقارير البنك المركزي المصري من حوالي 35 مليار دولار عام 2011 إلى حوالي 130 مليار دولار عام 2020، ليصل إلى حوالي ثُلث الناتج المحلي الإجمالي، وبزيادة بمقدار 270% تقريبًا خلال عشرة أعوام فقط، والبقية تأتي مع القروض القادمة من صندوق النقد وغيره!
ثالث الدفوع المؤسفة، هو ما يجرى التمهيد له حاليًا بإمكانية بيع الديون، وسداد الديون من خلال الأصول، بالحديث عن قيمة وأهمية الأصول التي تملكها الحكومة، وبغض النظر عما في هذا الدفع من مخاطر تقترب من التفريط الوطني، فإنه حتى بمنطق الإدارة المالية السليمة على أكثر المستويات بساطة، ليس من الحكمة أن نبيع عفش البيت لسداد مصروفاتنا الجارية (وحتى بعض الاستثمارية أحيانًا!).
وهكذا، فلا بد من استبعاد تلك الأصول عند تقييم مدى خطورة تلك القروض بما ترتّبه من أعباء على الاقتصاد، وأقصى ما يمكن أخذه في الاعتبار بخصوص العلاقة بين تلك الأصول والقروض، هو مدى قدرة تلك الأصول على الإنتاج والتصدير لتوفير عملات أجنبية تساهم في سداد أعباء تلك القروض، وهو ما تُفترض دراسته ضمن القدرة الاستيعابية للاقتصاد المصري على الاقتراض من الأصل، ولا شك أن واقع الحال يغني عن السؤال في ذلك الشأن!
رابع الأوهام المعزولة عن الواقع هو ذلك القول إن الاقتراض بمعايير مالية سليمة أفضل من المساعدات، وهو ما ليس صحيحًا على الإطلاق، فالخبراء دائماً ما يركّزون في تقييمهم الموارد الخارجية على "مُكون المنح" فيها باعتباره ميزة، وحتى لو صح ذلك القول، فهو صحيح من وجهة نظرية محاسبية بحتة، ويمكن تعويضها بحساب اقتصادي جديّ، والفارق الجوهري حقًا بين طرائق التمويل من زاوية الكفاءة ليس كونها قروضًا أم معونات، بل مدى خضوعها للإرادة الديمقراطية للشعب، سواء في القبول بها أو في توظيفها أو في الرقابة عليها، فما فائدة المعايير المالية السليمة في شكلها المجرد، وكيف نضمنها أصلاً إذا كان الشعب ومُمثلوه لا يُستشارون فيها جديًا؟
فالعبرة إذاً هى بالشفافية والمحاسبة والرقابة الشعبية الحقيقية على تلك الموارد بما يضمن مراعاة تلك المعايير، وبما يضمن أن تُراعى تكاليف وعوائد تلك الموارد بشكل جدي، كذا بما يضمن كفاءة استخدامها في مشروعات تنهض بالاقتصاد وتطوّره، وتحقق معايير الكفاءة المالية من توافق آجال العوائد مع آجال السداد، وليس إهدارها في حاملات طائرات ومفاعلات نووية وما شابهها مما لاعائد له في الأجل المنظور، أو ربما لا عائد له إطلاقًا في بعض الأحيان، ومما لا يتوافق أساسًا مع أولويات بلد مأزوم ماليًا واقتصاديًا، ويعاني شعبه الأمرّين في أساسيات حياته اليومية!
وفي تعامٍ غريب عن كونه ليس تعويمًا حقيقيًا، يجرى الترويج – خامسًا - لأن تعويم 2016 قد حلّ مشكلة سعر الصرف نهائيًا، بما كان له من تأثيرات متبادلة مع التجارة الخارجية والمديونية، وكأنما لم يكن يعوق الحركة التجارية للاقتصاد المصري بهيكله الإنتاجي غير المرن محدود التصنيع سوى سعر الصرف، وليس أن صناعته التحويلية محدودة الوزن النسبي والقيمة المُضافة، ولا تساهم في الناتج المحلي الإجمالي سوى بأقل من 20% منه، وأنها ضعيفة التنافسية غير قادرة على التصدير، ولا تساهم سوى بنصف الصادرات الضئيلة أصلاً؛ ما يعني بمُجمله.
وكما أكدت التجربة الفاشلة المتكررة، خسارة الرهان على التعويم كآلية لضبط وتحفيز التعاملات الخارجية الإيجابية؛ ومن ثم توليد النقد الأجنبي وتقليص فجوة التجارة؛ فالجهاز الإنتاجي العاجز ابتداءً عن الإنتاج السلعي الكافي كمّيًا والتنافسي كيفيًا، والمعتمد على الخارج بقدر معتبر من احتياجاته من السلع الإنتاجية والوسيطة، لن يستغني فجأة عن تلك الواردات الضرورية لاستمرار عمله، ناهيك عن أن يصبح قادرًا على التصدير والمنافسة وتحقيق فائض تجاري عمومًا، ناهيك عن فائض تجاري كافِ لتحويل دفة ميزان النقد الأجنبي للإيجابية من دون مساعدة تحويلات العاملين بالخارج.
تلك التحويلات، التي تقودنا لسادسًا، وهو الاعتماد – الضمني - المُفرط عليها، ضمن ميزان الخدمات عمومًا، في سدّ عجز ميزان المدفوعات عبر أربعة عقود، في رهان لم يعد له ما يدعمه بعد الانتهاء شبه المؤكد لطفرة النفط وتراجع الفوائض المالية لاقتصادات الخليج، فضلاً عن تزايد أعبائها واحتياجاتها المحلية مما بدأت تظهر بوادره فعليًا؛ وسيقود حتمًا، عاجلاً أو آجلاً، إلى انخفاض جذري في قدرتها على استيعاب العمالة الأجنبية؛ ما يعني ضرورة استعداد مصر بتوفير مصادر بديلة للنقد الأجنبي أو بمعالجة عجزها التجاري المُزمن، أو بتخفيض أعبائها المتراكمة من الاستدانة من باب أولى؛ وإلا فستصطدم يومًا ما بحاجز مديونية لا تستطيع سداده.
ولا نعلم يومها ماذا سيكون الثمن السياسي أو الاقتصادي المدفوع لقبول إعادة الجدولة، الذي سيعيد لنا الذكريات المرّة لصندوق الدين أيام إسماعيل ومشاركة مصر بحرب الخليج الثانية أوائل التسعينيات.