بعد مرور أكثر من 40 يوماً على شنّ حرب الإبادة الجماعية من قبل جيش الاحتلال على قطاع غزة، لم يحقِّق الاحتلال الإسرائيلي أهدافه الواهية المُعلنة والمتمثِّلة بالقضاء على حركة حماس، فالأهداف الحقيقية المبطنة والمغلَّفة بعناوين مخادعة ومضلّله تركِّز أساساً على ضمّ قطاع غزة والتمتُّع بثرواته من الغاز الطبيعي في حقبة يزداد فيها التعطُّش للغاز من قبل أسواق العالم، وخصوصاً أوروبا، بعد وضع قيود شديدة على الغاز الروسي عقب غزو روسيا أوكرانيا وما أعقب ذلك من إغلاق موسكو صنابيرها من النفط أمام الغرب في مارس/ آذار 2022.
في سبتمبر/ أيلول 2000، أعلنت الشركة البريطانية "بريتيش غاز" اكتشاف بئر غاز "غزة مارين 1" على عمق 603 أمتار تحت الماء وعلى بعد 36 كيلومتراً غرب مدينة غزة في مياه البحر المتوسِّط، وصرَّحت بعد ذلك بأنّه قد اكتُشِفَت بئر "غزة مارين 2"، ثمّ انسحبت من المفاوضات نتيجة التعنُّت الإسرائيلي وحلَّت محلّها شركة "رويال داتش شل" التي غادرت هي الأخرى في عام 2018.
يحوي حقل "غزة مارين" 1.1 تريليون قدم مكعّب من الغاز الطبيعي، أي حوالى 32 مليار متر مكعّب، وتُقدَّر طاقته الإنتاجية بـ 1.5 مليار متر مكعّب سنوياً لمدة 20 عاماً، حيث يمكن لهذا الغاز، الذي تراوح نوعيته الجيِّدة ما بين 98% إلى 99% من الميثان النقي بحسب تأكيدات "بريتش غاز"، أن يُخرج غزة من الظلام الذي تغرق فيه بسبب سياسات الاحتلال الإسرائيلي ومطامعه.
في 28 سبتمبر/ أيلول عام 2000، اتَّجه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات نحو موقع التنقيب بقارب بحري زيَّنته الأعلام الفلسطينية ليعطي إشارة البدء في أعمال حفر أوّل بئر فلسطينية لإنتاج الغاز قبالة شواطئ القطاع، وفي اليوم ذاته انطلقت شرارة انتفاضة الأقصى عقب اقتحام زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك أرييل شارون باحات المسجد الأقصى بموافقة من رئيس الوزراء إيهود باراك، وتوقَّفت الانتفاضة فعلياً في 8 فبراير/ شباط 2005 بعد اتِّفاق الهدنة الذي عُقِد في قمّة شرم الشيخ.
شكَّلت هذه الانتفاضة، التي يُعدّ الطفل الفلسطيني الشهيد "محمد الدرة" رمزاً وأيقونة لها، محطة مفصلية في تغييب قيادات فلسطينية تاريخية بالاغتيال أو الاعتقال وتمخَّضت عن بناء جدار الفصل العنصري الممتدّ على طول الخط الأخضر مع الضفة الغربية.
لقد أكَّدت انتفاضة الأقصى أنّ تشبُّث إسرائيل بذريعة اقتلاع حماس ما هو إلاّ حجّة واهية للسيطرة على غاز غزة بعد منع الفلسطينيين من استخراجه والاستفادة منه.
ففي ظلّ الهجمات الإسرائيلية التي تعقب كل مبادرة لإحياء مشروع تطوير حقل "غزة مارين" لبدء الاستثمار فيه، لم يُستخرَج أيّ غاز من سواحل غزة ومياهها الإقليمية التي ظلَّت حبيسة الظلام بسبب إصرار الاحتلال الصهيوني على حرمان الفلسطينيين، وتحديداً سكان غزة، وبالأخص حركة حماس، الأموال والأرباح والثروات الطائلة التي يدرّها تشغيل حقل "غزة مارين".
ازدادت طموحات إسرائيل وتجلَّت رغبتها في التحوُّل الى مركز لتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا خصوصاً بعد أن أثقل انقطاع الغاز الروسي كاهل اقتصادات أوروبا، لذلك وضعت دولة الاحتلال نصب عينيها استغلال الغاز الطبيعي الذي يزخر به حقل "غزة مارين".
في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2022، عادت مسألة تطوير حقل غاز "غزة مارين" بقوّة إلى طاولة المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل ومصر بوساطة الاتِحاد الأوروبي والولايات المتَّحدة، حيث أكَّد وزير البترول والثروة المعدنية المصري طارق الملا في أواخر ذلك الشهر التوصُّل إلى "اتِّفاق إطاري" لتطوير ذلك الحقل.
بعد إعلان انتخابات الكنيست الإسرائيلي من أجل التصويت على منح الثقة لحكومة رئيس الوزراء المُكلَّف بنيامين نتنياهو، التي أُجريَت في 29 ديسمبر/ كانون الأوّل 2022، أحالت وزيرة الطاقة الإسرائيلية آنذاك كارين الهرار ملف تطوير حقل غاز "غزة مارين" على الحكومة الإسرائيلية المقبلة، وفقاً لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل".
في 18 يونيو/ حزيران الماضي، وافقت إسرائيل مبدئياً على تطوير حقل "غزة مارين" للغاز بشرط التوصُّل إلى تنسيق أمني مع السلطة الفلسطينية ومصر التي لطالما لعبت دوراً محورياً في إيجاد مخرجٍ لحلّ أزمة حقل الغاز الكبير قبالة سواحل غزة، علماً أنّ حركة حماس قد أكَّدت رفضها للاستغلال الصهيوني لقضية غاز غزة كأداة لتمرير صفقات أمنية وسياسية مع بعض الأطراف.
في السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، أكَّد الهجوم البطولي الذي شنَّته حركة حماس على العدو الصهيوني أنّ مأساة الفلسطينيين تحت الاحتلال يجب أن تنتهي لتتسنَّى لهم الفرصة للتمتُّع بالثروات التي تزخر بها أرضهم، وعلى رأسها الغاز الطبيعي والنفط المدفون تحت سواحلهم.
بطبيعة الحال، استغلّ الاحتلال الإسرائيلي، تحت أوامر نتنياهو، الفرصة لشنّ حرب إبادة جماعية على سكان قطاع غزة بغية محوهم من الوجود والانفراد بثروات القطاع وسواحله من أجل تحقيق أرباح بمليارات الدولارات في ظلّ أزمة الطاقة التي تعصف بأوروبا.
جدير بالذكر أنّ الإيرادات المُتوقَّع تحصيلها بعد تطوير وتشغيل حقل غاز "غزة مارين" تصل إلى ما يُقدَّر بنحو 700-800 مليون دولار سنوياً، أي ما يعادل 14 مليار دولار إلى 16 مليار دولار في غضون عشرين عاماً، وفقاً لصحيفة "هآرتس" العبرية.
في الواقع، يمكن لتلك الإيرادات أن تحسِّن أوضاع الفلسطينيين، وتنعش خزينة السلطة الفلسطينية التي من المُتوقَّع أن يبلغ عجزها 610 ملايين دولار بحلول نهاية هذا العام.
وفقاً لتقرير نشره معهد الولايات المتَّحدة للسلام في 3 أغسطس/ آب 2023 تحت عنوان "كيف يمكن لصفقة "غزة مارين" أن تفيد الفلسطينيين والإسرائيليين والمنطقة؟" How a Gaza Marine Deal Could Benefit Palestinians, Israelis and the Region، فإن من المُتوقَّع أن تصل مدَّخرات السلطة الفلسطينية إلى 560 مليون دولار سنوياً بعد الاستغناء عن استيراد الكهرباء الإسرائيلية، وسيتضاءل العبء حتماً على السلطة الفلسطينية بشكل كبير بعد توليد الكهرباء في غزة التي كان سكانها يحصلون على أقلّ من 40% من احتياجاتهم من الكهرباء قبل الحرب الجارية.
خلاصة القول، لقد كان النفط سبباً رئيسياً وراء الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، وها هو الغاز الطبيعي أيضاً يلعب الدور ذاته في تأجيج حرب الإبادة الشاملة التي يشنُّها الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزة، في ظلّ صمت العرب وتواطؤ الغرب.