الاستقرار الاقتصادي، ليس مجرد مجموعة من المؤشرات التي تعكس أداء الاقتصاد الكلي في بعض جوانبه، ولكن الاستقرار الاقتصادي يعني بشكل كبير حالة معيشة الناس في المجتمع، مستهلكين كانوا أو منتجين أو مدخرين، كما يعني الاستقرار الاقتصادي، أن عملية اتخاذ القرار الاقتصادي على مستوى الأفراد والحكومات، تتم في بيئة بعيدة عن الاضطرابات الكبيرة. لكن ليس هذا ما يحصل في تركيا حالياً.
والمتابع للشأن التركي في مجال الاقتصاد خلال عام 2023، يجد أن النصف الأول من العام كان يحمل هواجس تتعلق بتوقعات الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وما يمكن أن تُسفر عنه، وكانت هناك مخاوف تتعلق بالتجربة التنموية التركية برمتها، من أن تأتي الانتخابات بتغيير كلي، يذهب بحصاد ما يزيد عن عقدين في مهب الريح.
وكانت التوقعات تذهب إلى أن حسم الرئيس رجب طيب أردوغان وتحالفه للانتخابات، سوف يعالج جميع مسالب النصف الأول من عام 2023، ولكن بعد الفوز واستقرار النظام السياسي على ما كان عليه، لم يأت بالنتائج التي كان يأمل مؤيدو الرئيس وتحالفه الانتخابي.
نعم زلزال المحافظات الجنوبية في مطلع عام 2023، فرض واقعًا وتبعات جديدة على الحكومة، حيث قدرت عمليات إعادة إعمار المناطق المنكوبة بنحو 100 مليار دولار، وزاد أعباء أمر الزلزال، تعهد الحكومة بتعمير المناطق المتضررة خلال عام.
كما أن الحكومة استعادت علاقتها بدولتي الإمارات والسعودية بشكل أفضل من ذي قبل، وانعكس هذا الأمر على زيادة الاستثمارات من البلدين في تركيا، فضلًا عن عودة الصادرات السلعية التركية لوضعها في السوق السعودي، وكذلك حصول البنك المركزي التركي على وديعة سعودية بنحو 5 مليارات دولار.
بداية الصدمات
فوجئ الناس في تركيا في الأيام الأولى بعد حسم الانتخابات، بمزيد من التراجع في قيمة العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، ومن ثم اتجاه معدلات التضخم للتزايد، ثم كانت المفاجأة الكبيرة، التي تمثلت في تغير نهج السياسة النقدية تجاه سعر الفائدة، وتحول الاتجاه من السيطرة على سعر الفائدة وتخفيضه، إلى قفزات غير متوقعة، حتى بلغ سعر الفائدة نسبة 40%.
ووفق البيانات الرسمية التركية فإن سعر الدولار قد تجاوز حاجز الـ29 ليرة، ويتوقع أن يصل إلى 30 ليرة للدولار بنهاية 2023، وكذلك لامس التضخم في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2023 معدل 62%.
وفي ظل هذه المشكلات الاقتصادية التي تؤلم المواطنين، نجد أن وكالات التصنيف الائتماني، تثني على أداء الاقتصاد التركي، وتُعلي مؤشرات تقييمه، وهو أمر لا يمس واقع معيشة الناس في شيء.
نعم هناك استمرار في أداء بعض المؤشرات الكلية الإيجابية، مثل وصول احتياطي النقد الأجنبي إلى قرابة 141.3 مليار دولار، وكذلك استمرار زيادة الصادرات السلعية، وأيضًا استمرار تدفق السياحة الوافدة، ومع ذلك لم ينعكس ذلك على تحسن سعر صرف الليرة، التي يبدو أنها خارج آليات العرض والطلب، ولكنها في إطار ما يعرف بسعر الصرف المدار.
كما يواصل معدل البطالة انخفاضه حيث وصل إلى 8.5% في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وكذلك تحقق تركيا معدلات إيجابية في النمو الاقتصادي الذي بلغ 5.9% بنهاية الربع الثالث 2023، وفق بيانات معهد الإحصاء التركي.
تحديات الليرة والفائدة والتضخم
على الرغم مما ذُكر من مؤشرات إيجابية، إلا أن الغوائل الثلاث (انخفاض قيمة الليرة، وارتفاع معدل التضخم، وتزايد سعر الفائدة) ما زالت تثير مخاوف اقتصادية واجتماعية في تركيا، وبخاصة مع قدوم العام الجديد.
ففي النصف الثاني من 2023، فقدت الليرة 45% من قيمتها، كما أن معدل التضخم صعد من 38% في يونيو/حزيران 2023 إلى قرابة 62% بنهاية نوفمبر 2023، وسعر الفائدة قفز من 8.5% في مايو/أيار 2023 إلى 40% حاليًا.
وكان لهذا التراجع أثره على حياة الناس بشكل كبير، ففي قطاع الإسكان، يستعد عدد غير قليل، مع بداية 2024 لتحديد القيم الجديدة للإيجارات، والتي عادة ما يتجه مالكوها لربط الايجار بالدولار وليس بالليرة، وهنا تكمن المشكلة، فإسطنبول كمدينة كبيرة جداً، تصنف كعاصمة اقتصادية دولية، بها عدد ليس بالقليل من المقيمين فيها، يستأجرون مساكنهم ولا يملكونها.
وإضافة للعبء الاجتماعي لارتفاع قيمة الإيجارات، فإن أصحاب الدخول الثابتة، وحتى باقي أفراد المجتمع، يفقدون ثقتهم في العملة المحلية، وبخاصة أن السياسة النقدية لم تحقق شيئاً في مجال مكافحة التضخم.
لقد أصبح إقبال الأفراد على شراء الذهب للحفاظ على مدخراتهم، واضحًا بشكل كبير، من خلال واردات تركيا المتزايدة من الذهب، وبخاصة في ظل حالة الركود التي تضرب قطاع العقارات، وتراجعه في ترتيب أولويات أصحاب المدخرات كمحزن للقيمة أو أداة للحفاظ على الثروة.
وحسب بيانات وزارة التجارة التركية، فإن واردات الذهب غير المصنع زادت خلال الشهور السبعة الأولى من عام 2023 بنسبة 180% مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي، حيث بلغت 19.4 مليار دولار، وهو ما دعا الحكومة لفرض بعض القيود على استيراد الذهب.
غرائب السياسة النقدية
رفع البنك المركزي سعر الفائدة، وخفض قيمة العملة، وجنى معدلًا للتضخم مرتفعًا، على الرغم من أنه في ظل ارتفاع معدلات الفائدة، كان المتوقع أن يبقى معدل التضخم على ما هو عليه، على الأقل، دون زيادة! ولكن الواقع أن هناك سباقًا بين ارتفاع سعر الفائدة، وزيادة معدلات التضخم، وغذى هذا السباق تبني نهج تخفيض قيمة العملة، ولا يلوح في الأفق ما يشير إلى جني ثمار إيجابية للسياسة النقدية الجديدة في الأجل القصير، وهو ما سيدفع الحكومة لتبني سياسة زيادة الحد الأدنى للأجور في بداية 2024 كما هو معتاد.
ولكن لم تعد الزيادات التي تعلن عنها الحكومة كافية لمواجهة معدلات التضخم، أو الحفاظ على قيمة النقود المحلية، والسؤال الصعب الآن أمام المنتجين، هو: من يستطيع تحقيق هامش ربح يتجاوز 40% فقط لتغطية تكلفة التمويل؟
توقعات عام 2024
لم يصدر عن الحكومة التركية، وبخاصة عن القائمين على أمر السياسة النقدية، ما يدل على أن ثمة دلالات على تهدئة معدلات التضخم، أو استقرار سعر الصرف، أو تراجع سعر الفائدة، وبخاصة في النصف الأول من عام 2024.
وهو ما يعني أن شركاء التنمية في تركيا، عليهم التعايش مع هذا الواقع، وتحمل تكاليفه، ويبقى تحد لا بد من أخذه في الاعتبار، وهو ما يتعلق بأداء الصادرات السلعية وقطاع السياحة، ومدى إمكانية تحقيقهما معدلات إيجابية خلال الفترة القادمة، في ظل استمرار سيطرة الغوائل الثلاث على مقدرات الاقتصاد التركي.
وإذا ما تطرقنا إلى التحديات الخارجية، فإن الاقتصاد التركي في عام 2024، سوف يتأثر بتحديات الاقتصاد العالمي والأوروبي بشكل كبير، وكلاهما يواجه تحدي النمو الهش، فضلًا عن التحديات الجديدة التي فرضتها عملية طوفان الأقصى، وبخاصة الواقع الجديد الذي تشهده التجارة البحرية، بعد عمليات الحوثيين في باب المندب، واحتمالات أن تشهد أسعار النفط ارتفاعات جديدة.
وكذلك تعاملات تركيا مع إسرائيل على الجانب التجاري والاقتصادي، التي تصل لنحو 7 مليارات دولار، وبلا شك فإن العلاقات الاقتصادية لتركيا مع إسرائيل، سوف تتأثر سلبًا في عام 2024، بسبب ما نال الاقتصاد الإسرائيلي من تداعيات سلبية.