عن ضرورة إقالة رياض سلامة

25 يوليو 2022
رياض سلامة محافظ المصرف المركزي اللبناني (Getty)
+ الخط -

لم تألف الدول تاريخياً فكرة وجود حكام للمصارف المركزية من المُلاحَقين بمذكرات التوقيف وبلاغات البحث والتحرّي، كحال حاكم "محافظ" المصرف المركزي في لبنان، رياض سلامة.

كما لم تألف المصارف المركزية حول العالم مداهمة مراكزها من قبل قوى الأمن المحلية، بحثاً عن حكامها أو رؤسائها، كما حصل في لبنان، قبل أن تغادر قوى الأمن خالية الوفاض، بسبب تواري الحاكم عن الأنظار.

ولم يعتد العالم في السابق أن تُدار سياساته النقدية بتواقيع وتعاميم مطلوب للعدالة، يستمر في ممارسة عمله بالرغم من الملاحقات الجارية بحقّه، ويمارس مهامه في نفس الوقت الذي يفر فيه من ملاحقات الأجهزة الأمنية.

باختصار، ما يجري في لبنان ليس سوى ظاهرة غريبة عن أسواق المال. ففي العادة، تحرص جميع الدول على إحاطة مصارفها المركزية بقدر معين من الاستقلالية والحصانة، لإبعادها عن وحول السياسة ومكائدها، ولتحييدها عن صفقاتها.

كما تحرص الدول على سمعة حكام مصارفها المركزية، لاتصال عملهم بالثقة في العملة الوطنية والنظام المالي، واستقرار أسواق القطع والقطاع المصرفي.

لعل التحدي الأساسي الذي يواجه لبنان اليوم يكمن تحديداً في كيفية استعادة ثقة أسواق المال العالمية والمجتمع الدولي والمستثمرين

وفي حالة لبنان بالتحديد، يمكن القول إن "الثقة" هي أكثر ما ستحتاجه البلاد خلال مرحلة التصحيح المالي، للخروج من الانهيار الحاصل اليوم.

ولعل التحدي الأساسي الذي يواجه البلاد اليوم يكمن تحديداً في كيفية استعادة ثقة أسواق المال العالمية والمجتمع الدولي والمستثمرين، قبل الدخول في برنامج قرض صندوق النقد والتفاوض على إعادة هيكلة المصارف والديون السيادية، وتوحيد وتعويم سعر الصرف.

وهكذا، وبالنظر إلى خطورة عامل السمعة والمصداقية بالنسبة إلى كل هذه المسارات، يبدو وجود رياض سلامة في منصبه اليوم، بالرغم من كل الملاحقات القضائية، مسألة مقلقة، وتحديداً من جهة أثرها على احتمالات نجاح مسارات التصحيح المالي والنقدي.

تجدر الإشارة إلى أن الملاحقات القضائية التي يتعرض لها حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، لا تقتصر على تحقيقات القاضية غادة عون، التي داهمت مقرّ المصرف المركزي في بيروت قبل أيام.

فخلال شهر يونيو/حزيران الماضي، أصدر القاضي غسان عويدات، النائب العام التمييزي، طلب ادعاء رسميا على حاكم مصرف لبنان، بتهم اختلاس الأموال العامة وتهريبها وغسلها.

والنيابة العامة التمييزية تمثل، بحسب القانون، أعلى سلطة ادعاء في الجمهورية اللبنانية، فيما يمثل موقع القاضي عويدات رأس النيابات العامة داخل النظام القضائي. ويرتبط طلب الادعاء هذا بقضية شركة "فوري" المسجلة باسم شقيق سلامة، والتي استفادت من عمولات تتجاوز قيمتها 330 مليون دولار، بفضل عقد وساطة حصلت عليه من مصرف لبنان.

في الوقت نفسه، يتابع المحققون الأوروبيون، في ست دول أوروبية، تحقيقاتهم في أجزاء مختلفة من تحويلات وثروات عائلة سلامة في أوروبا، وهي تحقيقات أفضت إلى تجميد أصول العائلة العقارية والمالية في كل من فرنسا وألمانيا ولوكمسبورغ.

وتجدر الإشارة إلى أن الملاحقات الجارية بحق سلامة وشركائه كانت قد بدأت في أوروبا قبل أشهر طويلة، قبل أن تنتقل إلى لبنان، بعد تلقّي السلطات القضائية اللبنانية طلبات تعاون قضائية من سويسرا وفرنسا وألمانيا، بخصوص هذه التحقيقات.

ولكل هذه الأسباب، يمكن القول إن فتح ملفات سلامة وعائلته ارتبط أولاً بمسارات التحقيق التي جرى فتحها في أوروبا، نتيجة تقارير استقصائية صحافية وتسريبات مصرفية، قبل أن يرتبط بأي توازنات أو حسابات سياسية لبنانية.

أخطر ما في الموضوع، المساومات التي يضطر حاكم المصرف إلى القيام بها، مع السلطة، في سبيل حمايته من الملاحقات القضائية التي يتعرض لها

على أن أخطر ما في بقاء سلامة في منصبه، لم يعد يرتبط بسمعة المصرف المركزي، والثقة في قدرة المصرف على قيادة مسار التصحيح النقدي. بل أخطر ما في الموضوع، بات المساومات التي يضطر حاكم المصرف إلى القيام بها، مع السلطة السياسية، في سبيل حمايته من الملاحقات القضائية التي يتعرض لها.

باختصار، بات موقع حاكمية المصرف عرضةً للابتزاز المستمر، لمقايضة القرارات المتعلقة بالسياسة النقدية، بالحمايات التي يتمتع بها الحاكم من السلطة السياسية، في وجه التحقيقات القضائية.

وكما هو معلوم، لا يوجد ما هو أخطر من المساومة في هذا النوع من الملفات، في بلد يشهد انهياراً نقدياً، وتعدداً لأسعار الصرف، وإنفاقاً من الاحتياطات لدعم أصناف معينة من السلع المستوردة.

باختصار، المساومة مع السياسيين وأصحاب المصالح في ظل فوضى نقدية كهذه، تفتح الأبواب لما لا يحمد عقباه من صفقات على حساب قيمة النقد، وما تبقّى من أموال المودعين التي أقرضتها المصارف إلى مصرف لبنان. وهذا تحديدًا ما جرى في العديد من المحطات.

فعلى سبيل المثال، في مطلع هذا العام، وبينما كانت السلطة التنفيذية في لبنان، وتحديداً رئاسة الحكومة، تحول دون إقالة حاكم مصرف لبنان وتوقيفه، طلبت السلطة من الحاكم الدخول في مغامرة ضخ العملة الصعبة من احتياطات مصرف لبنان، لضبط سعر الصرف، بانتظار تمرير الانتخابات النيابية.

بمعنى آخر، أرادت السلطة تهدئة الوضع النقدي بشكل مؤقّت وغير مستدام، وعلى حساب الخسائر الضخمة التي سيتكبدها مصرف لبنان خلال فترة قصيرة جدًا، وبدون أي رؤية للسياسة النقدية على المدى الأطول، لتفادي تكبيد أحزاب السلطة خسائر كبيرة في الانتخابات النيابية.

بحسب أرقام المصرف المركزي، خسر المصرف المركزي ما يقارب الـ 2.49 مليار دولار من احتياطاته، خلال النصف الأول من السنة

وبالفعل، وبالنظر إلى حاجة حاكم مصرف لبنان إلى الغطاء السياسي من السلطة التنفيذية، في وجه الملاحقات القضائية الجارية بحقّه، دخل الحاكم دوّامة ضخ الدولار على مدى الأشهر الستة الأولى من العام الحالي.

وفي النتيجة، وبحسب أرقام المصرف المركزي نفسها، خسر المصرف المركزي ما يقارب الـ 2.49 مليار دولار من احتياطاته، خلال النصف الأول من السنة.

مع الإشارة إلى أن هذا المبلغ سيُضاف إلى كتلة الخسائر التي تراكمت في ميزانية المصرف المركزي على مدى السنوات الماضية، والتي أدت إلى تبديد كتلة ضخمة من الودائع الموجودة في النظام المصرفي اللبناني.

ومن المساومات التي اضطر حاكم مصرف لبنان إلى القيام بها، كان موافقته على إجراء عملية تصحيح لأجور القضاة، بعمليات مصرفية تقوم على بيعهم الدولار بسعر الصرف الرسمي القديم، ومن ثم شراء الدولارات نفسها بأسعار مضاعفة، أي عبر استغلال ثغرة تعدد أسعار الصرف.

وبهذه الطريقة، وبدل قيام الحكومة بعملية تصحيح شاملة لأجور القطاع العام، عبر إعادة هيكلة كاملة للميزانية العامة، قرر حاكم مصرف لبنان تصحيح أجور شريحة صغيرة من العاملين في القطاع العام، وتحميل الكلفة إلى ميزانية المصرف المركزي.

مع الإشارة إلى أن هذه الخطوة ظهرت كمحاولة من قبل حاكم مصرف لبنان لتخفيف وتيرة الملاحقة القضائية الجارية بحقّه، عبر استمالة أعضاء الجسم القضائي إليه.

باختصار، بات وجود حاكم مصرف لبنان في مركزه، في ظل كل الملفات والملاحقات القضائية الجارية بحقّه، مكلفاً على مسار التصحيح الذي يفترض أن تسير باتجاهه البلاد.

وفي الواقع، ثمة من يشير إلى حسابات سياسية معينة تدفع باتجاه بعض القرارات التي تتخذها القاضية غادة عون، المقربة من رئيس الجمهورية، عبر الإشارة إلى محاولة الرئيس وفريقه السياسي تسجيل بعض النقاط السياسية من خلال المداهمات التي تجري.

لكن، من الناحية العملية، يمكن القول إن إبقاء رياض سلامة في منصبه، هو تحديداً ما يفتح المجال أمام هذا النوع من الاستثمار السياسي في ملفه، مع الإشارة مجدداً إلى أن الملاحقات القضائية الجارية بحق سلامة لا تقتصر على الملف الموجود بحوزة القاضية عون، بل تشمل ملفات أخطر وأكبر موجودة في لبنان وأوروبا.

المساهمون