عندما سألوا موشي ديان بعد نكسة 1967 عن سبب انتصار إسرائيل رغم نشرها المُسبق لخطط هجومها على العرب، أجاب: " العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يستوعبون، وإذا استوعبوا لا يطبّقون، وإذا طبّقوا لا يأخذون حذرهم"، ويبدو أننا ما زلنا لا نقرأ ولا نفهم ولا نستوعب، ناهيك عن أن نطبّق.
فعن ضعف معرفة أو تواطؤ مُتعمد، يظن أو يزعم الكثيرون أن السياسات الحالية تمثل نهجًا جديدًا أو تحمل تصوراتً مختلفة حقًا عما سبق وطبقته مصر لعقود، فيما تشير كافة الممارسات والشواهد إلى التكرار حد الملل لذات الأساليب والبرامج دونما تجديد أو إبداع، بدءًا من الاستراتيجية الكبرى وحتى أبسط التفاصيل.
فحتى "المؤتمر الاقتصادي" سبق أن نفذ مبارك مثيله عام 1984، وصحبته كغيره ذات الأفراح والليالي الملاح عن أكوام المليارات والرخاء الأسطوري القادم، لتوشك مصر على الإفلاس بعدها ببضعة أعوام لا غير، لولا الإنقاذ المدفوع سياسيًا -بمشاركة مصر في حرب الخليج الثانية- من نادي باريس أوائل التسعينيات.
مياه قديمة في أوعية جديدة
وواقع الأمر هو افتقادنا الاستقلال الاقتصادي ابتداءً، فخضوعًا لسياسات المشروطية التي يفرضها صندوق النقد الدولي وشقيقه البنك الدولي، اللذان يجمعهما الكثير بصندوق الدين الذي سيطر على مصر استيفاءً لديونها أواخر عهد الخديوي إسماعيل، لا تستطيع الحكومة التدخل في الاقتصاد إلا من باب الإنفاق على البنية التحتية بالأساس، والذي أصبح بذاته قلب استراتيجية تنموية كاملة، تظنها الحكومة المصرية مدخلاً لبناء سوق رأسمالي وجذب استثمار خاص محلي وأجنبي لبناء قطاع خاص فاعل في مصر، وما أكثره شططًا من وهم.
فقد ظل الاستثمار الأجنبي على مستواه تقريبًا دون زيادة نوعية أو مُستدامة، وبالمثل فعل الاستثمار المحلي، أو القطاع الخاص المصري، الذي ظلت الحكومة المصرية تدعوه وتشجعه، رسميا على الأقل، للحلول محلها، فلم تعوّض زيادة حصته النسبية الانخفاض في حصة الاستثمار الحكومي؛ لينخفض الاستثمار الإجمالي.
والأدهى والأمرّ أن ظلت معظم استثمارات القطاع الخاص محصورة بالأساس في القطاعات الريعية والخدمية من تجارة وسياحة وعقارات ..إلخ، ولم تسهم مساهمة جادة في نمو الإنتاج السلعي وتطور الصناعة المحلية والتصدير للخارج، بل لعلّها لعب الدور الأكبر في تضخّم الواردات المصرية منذ بدأت سياسة الانفتاح في أواسط السبعينات، عندما تضاعفت عدة مرات، وظلت أعلى من الصادرات بما تراوح ما بين الضعفين والثلاثة أضعاف طوال أربعة عقود.
ومع ذلك، ما زالت الحكومات المصرية تعيد إنتاج ذات السياسات، بتعبئة ذات المياه القديمة في أوعية جديدة، وكأن ذلك يكفي لأن تنجح هذه المرة، ناسية أو متناسية حكمة أينشتاين الكلاسيكية، أن الغباء هو تكرار محاولة ذات الشيء مع افتراض اختلاف النتيجة.
والمعضلة هنا أن الغباء يجري تكراره بحذافيره، فتوسّع هائل في الإنفاق على البنية التحتية بالمديونية الخارجية هو بالضبط كل ما كان يفعله مبارك اقتصاديًا طوال عقد رئاسته الأول، بلا أي فارق حقيقي أو جوهري.
ويبدو أن الرهان حاليًا هو ذاته الرهان وقتها، وهو الإنقاذ بأثمان سياسية، وتبريد تلك الديون المتفاقمة بالتنازل عن بعضها وإعادة جدولة بعضها الآخر، يومًا ما.
أعقد من مجرد غباء
لكن المؤكد أنه لا يمكن اختزال ذلك الإصرار على نهج لا يعمل، وطريق لا يؤدي بنا إلى أي مكان، في مجرد الغباء أو الجهل، فالحقيقة أن إشكالات الاقتصاد المصري ليست بذلك التعقيد، ولسنا بحاجة لاكتشاف النار، ولا إعادة اختراع العجلة لفهم جوهر أزماتنا وعلاج أساس تخلفنا وفقرنا، فجلّ ما نحتاجه هو تحرير ذلك الاقتصاد من شبكات المصالح التي تعوق تطويره أولاً وقبل كل شيء آخر.
فحتى بفرض سارت مصر في اتجاه تنمية رأسمالية تقليدية تمامًا، وبفرض توفّرت كافة الشروط البنيوية الداخلية والخارجية، فإن اكتمال تحوّل رأسمالي وتكوّن سوق حرّة حقيقية بالمعاني الفيبرية، ستظل أمورًا في حكم الاستحالة طالما ظلت البيروقراطية واللامؤسسية والمحاسيبية المسيطرة، التي أحالت الاقتصاد لما يشبه "الإقطاعات" المُوزّعة على مجموعة من الفئات والعائلات والمؤسسات، بشكل أبعد ما يكون عن السوق الحرة، وآليات المنافسة والفرز بالكفاءة؛ بشكل لا يكتفي بإهدار الموارد وخسارة الفرص، بل يزيد الطين بلة بصد وتنفير أي إمكانات بديلة، بطرده أي بدائل محتملة من تلك "السوق المُغلقة إقطاعيًا"، إن جاز التعبير.
الثمن المُزدوج للرأسمالية المُبقرطة التابعة
هنا تتجلّى معضلة مصر الكبرى، التي بسببها تدفع ثمنًا مزدوجًا للتطبيق المُختل للرأسمالية فيها؛ وذلك بسبب وقوعها بين قوتين متحالفتين رغم اختلافهما، فالبيروقراطية الحاكمة حليفة البورجوازية المصرية تضمنان مصالحهما المعوّقة للتطور والنمو بأشكال ما قبل رأسمالية، لكن في الإطار الشكلي للأيديولوجيا والتطبيقي للبرامج النيوليبرالية المهيمنة عالميًا.
فتتحالف على مصر "التبعية للخارج" ومصالحه من خلال طبقة حاكمة عاجزة وراغبة عن اتخاذ موقف وطني مستقل، مع "المصالح ما قبل الرأسمالية" لتلك الطبقة ذاتها التي تمتلك هنا القوة الكافية للدفاع عن مصالحها الضيقة فقط؛ لينتج لنا ذلك الكيان المُشوّه من رأسمالية تابعة تحرّكها مصالح الخارج، لكن تحت قيادة تحالف رأسمال تجاري مع بيروقراطية شبه إقطاعية (أو باترومونيالية بالتعبير الفيبري)؛ لتصبح رأسمالية لها كل رذائل الرأسمالية، لكن دون سوق حرة أو شبه حرة، وبدون فضائلها ولو جزئيًا، من منافسة ومؤسسية ومعيارية وحكم قانون ..إلخ.
يقتل هذا الوضع أي ديناميكية مُحتملة يمكن أن تقود لتطوّر كيفي يتيح الاستفادة من أي فضائل أو مزايا محتملة من الرأسمالية ويغيّر الوضع الاقتصادي والاجتماعي بشكل جذري؛ ليتحوّل الاقتصاد لمجرد ثقب أسود لانتزاع الفوائض وتوزيعها بممارسة تشبه التوزيعات المافياوية عبر عُقد ومفاصل الهيمنة والتبعية بين الداخل والخارج.
فيما تتراكم التكاليف والخسائر المحلية لتتضخّم الأزمات الكامنة في جسم الاقتصاد الراكد بغياب التصنيع المستقل وتكلّس السوق التي تحتويه، مع تكرار الدورة الاقتصادية بفجوات تجارية ومالية ونقدية يجري سدّها باستمرار باقتراض من الداخل والخارج (الدين العام)، ومن الحاضر (بالجباية) والمستقبل (بالتضخّم)؛ ليظل الاقتصاد في حالة من المديونية الدائمة والتدهور المستمر للعملة، ناهيك عن التكاليف الاجتماعية.
تتجلّى مظاهر ذلك وجذوره معًا، في استمرار نمط النمو الذي تغلب عليه الخدمية والريعية غير المُنتجة، مع تدهور نصيب القطاعات السلعية في الاقتصاد لصالح القطاعات الخدمية، وتحقّق جزء كبير من النمو من صادرات أوّلية غير متجددة ومحدودة القيمة المُضافة كالبترول، ومن قطاعات خدمية متقلبة الأوضاع والعوائد كالسياحة، ومن ريوع جيوبوليتيكية كعوائد قناة السويس وتحويلات المصريين العاملين بالخارج؛ لا عجب في تقلّب هذا النمو وتدهوره مع الزمن، وسوء توزيع عوائده، وعدم شعور المصريين بآثاره في مستويات معيشتهم المتدهورة.
إن نمو الجسد الاقتصادي يمكن تشبيهه بنمو الجسد البشري، فالجسد البشري يلزمه نمو متوازن في العضلات واللحم والدهن، وكذلك الجسد الاقتصادي، فهو بحاجة لنمو متوازن وتناسبي بحسب مرحلة تطوره في كلٍ من العضلات (أي القوى الإنتاجية)، واللحم (أي الإنتاج السلعي المادي)، والدهن (أي الإنتاج الخدمي).
فإذا اختلت العلاقات بين مكونات النمو الثلاثة؛ كان نموًا مختلاً غير آمن ولا مستقر ولا مُستدام، وتجربة مصر منذ الانفتاح الاقتصادي تفرض عليها الانتباه لنمط نموها الشحمي الذي غلبت عليه الدهون، وتغييره إلى نمط نمو عضلي لحمي، تغلب عليه تنمية القدرة الإنتاجية وتعزيز الإنتاج المادي، الأمر الذي يعود بنا لنقطة البداية، أن كل شيء يبدأ بالسياسة وينتهي إليها، أي ضرورة تحرير ذلك الاقتصاد من شبكات المصالح المحلية المُتكسّبة من احتكار السوق المحلية والتطفّل الريعي على المجتمع، ومن إغلاق المنافذ على ما سواها وتوزيع الكعكة الاقتصادية عبر قنواتها عمومًا، وبالمثل من التبعية الخارجية التي تسيّد رأس المال التجاري على ما سواه من قطاعات رأس المال الأكثر إنتاجية؛ فتعوق التعميق الصناعي والتطوير السلعي الذي لا بديل عنه كمسار تنموي لبلد كثيف السكان كمصر.