عن السداد بالروبل والدين الروسي ومخاطر التعثر

04 ابريل 2022
العملة الروسية تأثرت سلباً بالحرب على أوكرانيا (Getty)
+ الخط -

بعد أيام قلائل من بداية الحرب الروسية على أوكرانيا هبط سعر الروبل بشدة حتى بلغت قيمته الأدنى تاريخيا لنحو 150 روبلاً مقابل الدولار الواحد، كنتيجة منطقية لسيل العقوبات الاقتصادية التي أطلقتها الولايات المتحدة وحلفاؤها حول العالم.

وبمرور الوقت تحسن أداء الروبل كثيرا وبنسب تقارب 40%، حتى أوشك مؤخرا أن يلامس مستويات ما قبل الحرب، وهو الأمر الذي دفع الكثير من الخبراء للبحث في أسباب هذا التحسن المستمر خاصة أنه حدث أثناء الحرب وفي ظل فترة زمنية قصيرة نسبيا، بالإضافة إلى البحث في طبيعة هذا التحسن من حيث كونه مؤقتا أم مستداما.

ولا شك أن هذا التحسن في أداء الروبل أثناء الحرب وفي هذه الفترة الوجيزة يقدم العديد من الدروس المستفادة على صعيد إدارة الأزمة من خلال أوراق القوة المتاحة، والتي تجيء كمحصلة للتحالفات الإقليمية والدولية التي تترسخ من خلالها مصالح متبادلة تحرص كل أطراف التحالف على استمرارها والاستفادة القصوى منها، وتنعكس مباشرة على الأداء الاقتصادي الذي يشكل المحور الأساس لتلك التحالفات.

أسباب تحسن الروبل الروسي
تعددت أسباب استمرار تحسن الروبل الروسي خلال الفترة الماضية، ومن بينها الإشارات الإيجابية للمفاوضات بين الجانبين الروسي والأوكراني والتي استضافتها تركيا، علاوة على القرارات التقييدية التي اتخذها البنك المركزي الروسي تجاه بيع وشراء العملات الأجنبية، وكذلك تلويح الإدارة الروسية ببيع النفط والغاز وربما المواد الغذائية الاستراتيجية بالعملة الروسية، الأمر الذي يعني نظريا تهافت مشتري النفط والغاز الروسي على شراء الروبل لدفع أثمان مشترياتهم التي ثبت أنه لا يمكن الاستغناء عنها خلال الأجلين القصير والمتوسط.

على الجانب الآخر تحتاج روسيا للدولار ليس فقط لسداد مديونياتها الخارجية وإنما أيضا لتمويل وارداتها من الخارج والتي تبلغ 296.1 مليار دولار في العام الماضي بنسبة زيادة 26.5% عن العام السابق له، وهو الأمر الذي يؤكد على استمرار الاحتياج الروسي للتعامل بالدولار، وبقاء التلويح ببيع النفط والغاز والسلع الغذائية بالروبل في الإطار النظري الذي ربما يحتاج الكثير من الوقت لتنفيذه عمليا.
كما لوحت روسيا باستخدام إجراءات أخرى، ففي نهاية الأسبوع الأول من الشهر الماضي، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوما يسمح بسداد المدفوعات لبعض الدائنين الأجانب من الدول التي وقعت عقوبات على موسكو بالروبل، وبموجبه ستتمكن الشركات الروسية مؤقتًا من السداد للدائنين من الدول التي سميت بـ"غير الصديقة" بالروبل.
كما أعلن وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف في منتصف مارس أن العقوبات الأجنبية على روسيا حرمتها من نصف احتياطياتها الأجنبية، وذلك يضعف قدراتها على سداد مديونيتها للخارج، وأنه أعطي أمر للبنوك المودع فيها الاحتياطيات الروسية بسداد دفعة قيمتها 117 مليون دولار مستحقة الدفع يوم 16 مارس.

وفي حال رفضت البنوك الغربية تنفيذ أمر السحب فإن روسيا ستضطر لدفع المستحق عليها بالروبل، وهو الأمر الذي شكك الكثير في إمكانية تنفيذه عمليا نظرا لحجم التداعيات الكبيرة لتخلف روسيا عن السداد حال تصميمها على هذا الإجراء.

ديون الدول غير الصديقة
بلغت الديون الروسية الخارجية 489 مليار دولار بنهاية ديسمبر 2021، وهو مبلغ ليس بالكبير مقارنة بحجم الناتج المحلي والذي يبلغ 1.7 تريليون دولار طبقا للبيانات الرسمية، ومقارنة كذلك بحجم الصادرات السنوية والبالغة 493.3 مليار دولار، من بينها 110 مليارات دولار صادرات نفطية، ونحو 55.5 مليار دولار غازا طبيعيا، بالإضافة إلى احتياطيات نقدية تبلغ 640 مليار دولار.

أما الدول غير الصديقة والتي هددها الرئيس الروسي بسداد مستحقاتها بالروبل فتشمل الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وكل دول الاتحاد الأوروبي واليابان والنرويج وسنغافورة وكوريا الجنوبية وسويسرا وبالطبع أوكرانيا.

والمشكلة أن أغلبية الديون المستحقة على الحكومة والشركات الروسية هي لصالح هذه الدول وتحديدا من بينها 25 مليار دولار لإيطاليا ومثلهم لفرنسا ونحو 17.5 مليار دولار للنمسا، 14.7 مليارا لأميركا، 9.6 مليارات لليابان، 8 مليارات لألمانيا، 6.6 مليارات لهولندا، 1.7 مليار لكوريا.
ويعني ذلك أن روسيا نظريا محاصرة ماليا من زاويتين أولهما عدم إمكانية البنك المركزي الروسي التحويل لأي بنك من بنوك هذه الدول التي فرضت عقوبات على البنك والكثير من البنوك المحلية، وثانيهما تجميد أموال احتياطها النقدي لدي هذه البنوك، وهو الأمر الذي دفع وزير المالية للتهديد بالدفع بالروبل حال عدم استجابة البنوك الغربية لدفع جزء من الأموال المجمدة.

تمتلك روسيا إمكانيات السداد لديونها الخارجية، فلديها 400 مليار دولار مجمدة في البنوك الغربية، بالإضافة إلى ما يقرب من 2300 طن من الذهب

عمليا فقد سارعت روسيا بسداد فوائد مستحقة عليها بقيمة 117,2 مليون دولار في المهلة المحددة في 16 آذار/مارس، حيث تلقى المصرف الأميركي "جي بي مورغان" دفعة من البنك المركزي الروسي.

ويشير ذلك بوضوح إلى الحرص الروسي على عدم الوقوع في فخ التخلف عن السداد من ناحية، والحرص الأميركي كذلك على إبقاء منفذ لسداد الديون الروسية، اتقاء لغضب سلسلة من الدائنين وسلسلة طويلة أخرى من دول الاقتصادات الناشئة والتي ستتضرر بشدة جراء التخلف الروسي عن السداد واضطرارها لرفع معدلات الفائدة الداخلية لمنع هروب الأموال الساخنة الذي سيعمق أزمة عجوزات موازناتها المحلية.

تداعيات كارثية للتخلف عن سداد الديون
حتى الشهر الماضي كانت أكبر البنوك والصناديق الاستثمارية في العالم يتنافسون على إقراض روسيا، وكذلك على تقديم ضمانات للديون الروسية بسبب الجدارة الائتمانية العالية التي تتمتع بها روسيا وبنوكها ومؤسساتها العامة والخاصة، ولكن انقلب الأمر جذريا بعد العقوبات الغربية، الأمر الذي دفع وكالات التصنيف الائتماني الكبرى في العالم الي تخفيض التصنيف الائتماني للدولة الروسية إلى الدرجة الرديئة، والتي تجعل من السندات الروسية غير مرغوب فيها.

وبالطبع أثر ذلك سلبيا وبشدة على قدرات روسيا على الاقتراض الخارجي، وخير دليل على ذلك أن السندات الروسية أضحت تباع بخصم 83% كاملة من قيمتها مقارنة ببيعها بعلاوة إصدار في مارس من العام الماضي، ومن جانب آخر فإن السندات المدينة بها روسيا لا يوجد إلا 6 منها فقط من اجمالي 15 سندا تتضمن نصا يقضي بإمكانية سداد مدفوعات السند بالروبل، والتوقف عن السداد في البقية يعرضها لمخاطر أن تصبح متخلفة عن السداد، وذلك بعد مرور مهلة 30 يوما على مرور تاريخ الاستحقاق، الأمر الذي قد يعرض أصولها حول العالم لأخطار التقاضي الدولي وإمكان الحكم بالمصادرة.

تحسن الروبل الروسي يبدو مؤقتاً
تمتلك روسيا إمكانيات السداد لديونها الخارجية، فلديها 400 مليار دولار مجمدة في البنوك الغربية، بالإضافة إلى ما يقرب من 2300 طن من الذهب، وما يزيد عن 80 مليار دولار سندات صينية، بالإضافة إلى 24 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة.

كل ذلك بخلاف عوائد صادراتها من النفط والغاز والسلع الغذائية الاستراتيجية والتي ما زالت تدفقات إيرادات صادراتها تتحدي العقوبات الغربية، وكل ذلك يعني القدرة العالية على السداد، وأن التفكير الروسي بالسداد بالعملة المحلية إن كان أجل فعليا ولو مؤقتا، ولكنه لا يزال خيارا مطروحا في ظل التصعيد المتبادل.

لكن في نفس الوقت يجب التأكيد على أن استدامة استقرار وتحسن العملة الروسية يحتاج إلى مؤشرات اقتصادية قوية تساند هذه الأوراق الاقتصادية الهامة التي تلوح بها روسيا ولم تطبقها فعليا على أرض الواقع حتي الآن، وبعد فيضان العقوبات على الاقتصاد الروسي من الطبيعي أن تتراجع أهم تلك المؤشرات، بما يعني أن تحسن الروبل الروسي ربما يبدو مؤقتا إلى حد كبير.

المساهمون