- المودعون يواجهون خيارات صعبة بين اللجوء إلى القضاء أو الاستسلام لفقدان أموالهم، في ظل خسائر البنوك التي تجاوزت 51 مليار دولار بنهاية 2020.
- الحلول المطروحة للأزمة تبدو غير كافية وسط تجاهل النخب السياسية، مما يزيد من تعقيد الموقف ويهدد بفقدان الثقة في القطاع المصرفي وتدهور قيمة الليرة اللبنانية.
الأرقام الصادرة هذا الأسبوع عن جمعية مصارف لبنان مخيفة جداً وتعني شيئاً واحداً وهو ضياع أموال المودعين في البنوك اللبنانية وربما للأبد، وأن أمل أصحاب المدخرات في استرداد أموالهم يتضاءل يوماً بعد آخر، بل ويقترب من الاستحالة في ظل عجز الدولة رسمياً عن رد الأموال، وشلل في الخطوات المتخذة، ونفض المصرف المركزي يده من الأزمة بتأكيد حاكمه بالإنابة وسيم منصوري أن البنك "ليست لديه الحلول لأزمة المودعين، ويجب ألا تكون لديه، فهي ليست من اختصاصه".
جمعية المصارف اتهمت الثلاثاء الماضي، الحكومة صراحة بتبديد أكثر من 121 مليار دولار من أصل قرابة 124 ملياراً كانت في شكل ودائع لدى البنوك قبل تفجر الأزمة الاقتصادية في خريف 2019 بسبب فساد الطبقة السياسية، وهذا يعني أن ما تبقى من أموال المودعين هو ثلاثة مليارات دولار فقط وبما يعادل 2.4% من إجمالي الودائع.
تأتي تلك الأرقام المخيفة التي تكشف عنها الجمعية للمرة الأولى في الوقت الذي لم تتخذ السلطات المسؤولة أي خطوات لكسب ثقة المودعين مرة أخرى واستعادة الثقة في القطاع المصرفي والتي انهارت خلال السنوات الأربع الأخيرة، مع سد أي باب أمام المدخرين لاسترداد أموالهم المجمدة التي تمتنع البنوك عن صرفها لأصحابها إلا بالتقطير وبقيود مشددة للغاية.
جمعية المصارف اتهمت الثلاثاء الماضي، الحكومة صراحة بتبديد أكثر من 121 مليار دولار من أصل قرابة 124 ملياراً
وباتت شريحة من المودعين على قناعة إما بأن تحمل السلاح وتتجه لأقرب مصرف وتهاجم مقره للحصول على أموالها، كما حدث في حالات سابقة ونجحت، أو أن تقيم دعاوى قضائية ضد الدولة والبنوك، وهذه خطوة تستغرق وقتاً طويلاً وغير مضمونة في ظل ضياع الأموال بشهادة جمعية المصارف وكبار المسؤولين، وتجاوز خسائر البنوك 51 مليار دولار بنهاية عام 2020، وإما، بخلاف ذلك، أن تفقد الأمل كلياً في استعادة الحقوق التي سطت الحكومة على جزء منها وأضاعها الفساد السياسي والمالي وعمليات غسل الأموال والرشى والإفراط في الاقتراض الخارجي وخطايا مصرف لبنان.
الكل بات يتفرج على مشهد سخيف ومتواصل عنوانه ضياع أموال المودعين، ولا توجد أي خطط عملية ملموسة لاختراق الجدار العميق لأزمة أرهقت الجميع وعلى رأسهم البنوك والمتعاملون معها، كما سببت أزمة كبيرة للاقتصاد والمستثمرين نتيجة الأضرار الهائلة الناتجة من حالة فوضى الأسواق وصعوبة الحصول على قروض مصرفية لتمويل الأنشطة المختلفة، فضلاً عن تهشّم صورة الدولة في الداخل والخارج بسبب عجزها عن طي هذا الملف المزمن وترددها الشديد في حسمه.
حتى النخب السياسية تغيب هذه الأزمة عن أجندتها، بعدما تمكنت من تهريب الجزء الأكبر من أموالها إلى الخارج قبل الكشف عن أسوأ كارثة مالية مرّ بها لبنان مصحوبة بفرض قيود على سحب الودائع والتحويلات الخارجية. وسط كل ذلك، الحكومة عاجزة ومتورطة في هذا المأزق، لأنها هي من أضاعت الجزء الأكبر من تلك الودائع، وأغرقت البلاد في ديون عجزت عن سدادها، بينما فرّط البنك المركزي بالجزء الأكبر من الاحتياطيات النقدية بالتواطؤ مع الحكومة، وهو ما أضعف قدرته على حماية تلك الأموال والمحافظة عليها، كما ساهمت المصارف نفسها في تضييع الودائع عبر ممارسات وأنشطة غير مسؤولة.
ويوماً بعد يوم، يصبح المشهد أكثر سوداوية أمام المدخرين وسط خلافات حادة ومستمرة بين الأطراف الفاعلة، ومعركة طويلة بين القطاع المصرفي والحكومة تتعلق بكيفية احتواء أزمة الودائع وتوزيع خسائر البنوك على المودعين وتمرير قانون يمنح الأفضلية لصغار المودعين الذين أودعوا البنوك مبالغ تقل عن 100 ألف دولار في استرداد أموالهم.
النخب السياسية تغيب هذه الأزمة عن أجندتها، بعدما تمكنت من تهريب الجزء الأكبر من أموالها إلى الخارج قبل الكشف عن أسوأ كارثة مالية مرّ بها لبنان
ولا غرو في أن الدولة هي المسؤول الأول عن رد تلك الأموال، فإما أن تعيدها بأقل الأضرار والاستقطاعات والخسائر، وبالتالي تحقق العدالة وإعادة الثقة في النظام المالي والمصرفي، وتعمد قبل كل شيء إلى محاسبة كبار المتسبّبين في تلك الكارثة، وفي مقدمتهم حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة المنتهية ولايته آخر يوليو/تموز 2023، وإما أن تتحمّل نتائج كارثية في حال التقاعس عن بتّ الملف، ولعل أبرزها فقدان الثقة في القطاع المصرفي للأبد، وعودة سياسة اكتناز الأموال في البيوت أو تهريبها إلى الخارج، و"دولرة الاقتصاد" بالكامل واستمرار تهاوي الليرة اللبنانية.