عض قلبي ولا تعض نقودي

10 اغسطس 2015
تفريعة قناة السويس الجديدة (أرشيف/الأناضول)
+ الخط -

في شهر أغسطس/آب 2014 تدافع آلاف المصريين نحو البنوك للاكتتاب في شهادات قناة السويس البالغة قيمتها 60 مليار جنيه، وقيل وقتها، إن عدد المكتتبين فاق 1.1 مليون شخص، وإن الاكتتاب فاق توقعات قيادات القناة والقطاع المصرفي، وإن البنوك الحكومية المكلفةَ تلقي الاكتتابات من الجمهور جمعت 64 مليار جنيه (8.1 مليارات دولار) في 8 أيام فقط؛ بزيادة 4 مليارات عن المبلغ المطلوب.

وهذا كلام صحيح ولا جدال فيه، على الرغم من إنني قلت وقتها إن الحكومة أصدرت تعليمات للوزارات والهيئات التابعة لها بالاكتتاب في شهادات قناة السويس، وإن كبار المكتتبين كانوا من الوزارات والمؤسسات الحكومية والنقابات المهنية والأحزاب السياسية وليس الأفراد، وضربت مثالاً بوزارة التضامن الاجتماعي التي اكتتبت وحدها بثلاثة مليارات جنيه، وهيئة الأوقاف المصرية التابعة لوزارة الأوقاف التي اكتتبت بقيمة 400 مليون جنيه، إضافة إلى شركات حكومية كبرى، مثل "المقاولون العرب" التي كان يرأس مجلس إدارتها رئيس الحكومة، إبراهيم محلب.

كما لعبت وسائل الإعلام المختلفة دوراً مهما في تحفيز مئات الآلاف من المصريين على الاكتتاب في هذه الشهادات، خاصة مع اللعب علي وتر الوطنية والإيرادات الضخمة المتوقعة للقناة عقب انجاز المشروع الجديد.

لكن ما هو السبب الحقيقي الذي دفع كل هؤلاء إلى تغطية الاكتتاب في شهادات قناة السويس في وقت قياسي، وبهذا المبلغ الضخم الذي فاق 64 مليار جنيه.

ساعتها تعددت الأسباب التي ساقها بعض المسؤولين والخبراء والمحللين والعاملين في البنوك، لكن أبرز ما قيل وقتها من أسباب هو إن السبب وراء تهافت المصريين للاكتتاب بحماس شديد في الشهادات هو الحس الوطني وروح الانتماء للوطن بالدرجة الأولى، لأن مشروع قناة السويس الجديد هو مشروع قومي بالدرجة الأولى، وبالتالي يجب أن يمول من أموال المصريين، لا أموال الأجانب، وكأن الأموال الأخيرة حرام أو عيب على الرغم من أنها مكون مهم من مكونات الاستثمارات المحلية في أي بلد.

والحديث عن عنصر الوطنية والحس القومي أمر لا يمكن لأحد التشكيك فيه أو التقليل من شأنه، إذ إن الوطنية إحساس وانتماء للوطن لا يجوز لأحد مهما كان أن يمنحه لأحد أو يمنعه عنه، لكن هل هذا السبب كافٍ لإخراج المصريين أموالهم من تحت البلاطة والتدافع بها نحو البنوك، وكأنه سيتم منح ميزة لأوائل المكتتبين في الشهادات.

اقرأ أيضاً: 4 مليارات جنيه خسائر إجازة افتتاح تفريعة قناة السويس

هناك سبب حقيقي من وجهة نظري لهذا التدافع يسبق بمراحل المشاعر الوطنية التي فسر بها بعضهم ظاهرة الإقبال الشديد على الاكتتاب في شهادات قناة السويس، وهذا السبب هو سعر الفائدة العالي الممنوح على الشهادات المطروحة والبالغ 12% سنوياً، فهذا العائد يفوق العائد الممنوح على الأدوات الاستثمارية الأخرى المتاحة في البنوك بنسبة 4% وربما أكثر، وهو بالطبع عائد مغر و"يزغلل" العين، خصوصاً مع ضعف فرص الاستثمار الآمنة أو قليلة المخاطر في المجتمع، وتراجع أسعار الفائدة في وحدات القطاع المصرفي، وحالة التذبذب التي ضربت البورصة في ذلك الوقت مع حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني.

قد يجادلني أحد في مسألة، أيهما يسبق الآخر في أسباب تدافع المدخرين نحو الاكتتاب بمليارات الجنيهات في شهادات قناة السويس ..الحس الوطني أم العائد العالي الممنوح على الأموال؟

لن أقدم دلائل مادية ملموسة على ما أقول واتبنى، ولن أعيد وأذكر الجميع، أن المصريين تدافعوا نحو شركات توظيف الأموال وهجروا البنوك في ثمانينات القرن الماضي بسبب العائد المرتفع علي مدخراتهم، أو أنهم أخرجوا مليارات الجنيهات من تحت البلاطة للاكتتاب في سندات شركات رجل الأعمال، رامي لكح، الذي هرب لسنوات خارج مصر لتعثره عن سداد ملياري جنيه مستحقة للبنوك، أو التدافع نحو شراء وثائق استثمار بنك "أميركان إكسبرس" فروع مصر في تسعينيات القرن الماضي.

لنختبر السبب الذي طرحته عملياً، فإذا كان السبب الأول المتعلق بالمشاعر الوطنية هو الأقوى في تدافع المصريين نحو الاكتتاب في شهادات قناة السويس، هنا سيستجيب المكتتبون للدعوات التي أطلقها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي وسياسيون وإعلاميون، خلال اليومين الماضيين، بالتنازل عن سعر الفائدة الممنوح على الشهادات والبالغ 12%، أي أنهم سيتنازلون عن 38.5 مليار جنيه قيمة عائد الشهادات على مدى 5 سنوات.

وسيستجيب المصريون أصحاب الشهادات أيضاً لدعوات التنازل عن 25% من قيمة أموالهم المستثمرة في الشهادات وبما يعادل 16 مليار جنيه، وفي هذه الحالة يكون المصريون قد تنازلوا عن 54.5 مليار جنيه من قيمة أموالهم المستحقة، وهو ما يزيد عن 50% من قيمة الأموال المطلوب سدادها من قناة السويس، في نهاية فترة القرض، أي بعد 4 سنوات من الآن.

إذا فعل المصريون ذلك، وتنازلوا عن كل هذه المليارات، هنا يصبح تفسير سبب تدافع المصريين للاكتتاب في وثائق القناة بأنه كان بدافع الحس الوطني، صحيحاً.

وإذا صدق تفسيري، والذي أقول فيه، إن السبب الحقيقي الذي دفع المصريين إلى الاكتتاب في شهادات قناة السويس هو سعر الفائدة العالي، ولذا فإن أحداً لن يتنازل عن جنيه واحد من أمواله المستثمرة في الشهادات، لأن المثل العامي المصري يقول "عض قلبي ولا تعض رغيفي".

واليوم الأحد عندما تفتح البنوك أبوابها سنعرف إجابة السؤال السابق، وستقول لنا البنوك: كم واحداً تنازل عن سعر الفائدة وربع أمواله من حائزي شهادات قناة السويس، وكم واحداً رفض ولم يستجب لدعوات مواقع التواصل الاجتماعي أو غيرها من دعوات جس النبض؟

بقي أن أقول، إن اكتتاب المستثمر في أي أداة استثمارية جذابة وذات عائد عالٍ ليس عيباً، ولا يتناقض مع مبادئ الوطنية وحب البلد، لأنه ببساطة يمكن الجمع بين الأمرين، والوطنية لا تتناقض مع استثمار الأموال بشكل كفء ومحترف.


اقرأ أيضاً:
حكومة مصر تتراجع عن توقعاتها بشأن إيرادات قناة السويس
قناة السويس: رهان مصر على حركة التجارة الدولية خاسر
التفريعة الجديدة لقناة السويس..جدوى غائبة وتقديرات عشوائية للعائدات