في أغسطس/ آب من عام 1989، أثناء اقتحام قوة من الشرطة اعتصام عمال الشركة المصرية للحديد والصلب، كان هناك عامل يدعى عبد الحي سيد حسن، يمارس عمله المعتاد من أعلى ونش صب الحديد. نهره ضابط وصوب سلاحه في وجهه ليجبره على وقف عمله. رد عليه عبد الحي، وفقاً لرواية زملائه: "لا أستطيع ترك صبة الحديد". أطلق الضابط رصاصة في صدره أنهت حياته هناك على كرسيه العالي في الونش حيث عمل لسنوات طويلة.
بعد قتل عبد الحي، تصاعد الغضب وهتف العمال باسمه "حي حي.. عبد الحي هيفضل حي". الاعتصام آنذاك انتهى بخيبة كبيرة بعدما لجأت الشركة لبرامج هيكلة، تضمّنت تسريح العمال بموجب التقاعد المبكر وخصخصة شركات القطاع العام المصرية، إلا أنه اعتصام أثمر عن قيادات عمالية ونقابية بارزة، حملت على عاتقها طوال العقود الماضية مسؤولية أمثال عبد الحي في المصنع، حتى تمت تصفيته تمامًا قبل أيام. ليموت عبد الحي، مرة ثانية وإلى الأبد.
وكان قوام الشركة عندما بدأ العمل بها 25 ألف عامل. وبمرور الوقت تقلص عددهم، إذ دأبت الشركة على إكراه بعض العاملين على تقديم طلبات موقعة منهم بالإحالة إلى اللجنة الطبية بزعم معاناتهم من حالات صحية. وبحسب عمال بالشركة، تستخدم الإدارة هذه الوسيلة لإنهاء خدمة العمال غير المرغوب فيهم، بل إن هناك بعض الحالات السابقة التي أثبت فيها عمال محالون إلى اللجنة الطبية تزوير توقيعهم على طلبات الإحالة.
في بلد قائم أساسًا على الإنشاءات ومد الجسور وبناء المدن العمرانية الجديدة بكثافة وبلا حدود؛ تتم تصفية قلعة وطنية لصناعة الحديد والصلب. واقع فعلي أليم تم التمهيد له قبل فترة من الزمن، وفق عدد من العمال.
فبعد 67 عامًا من تأسيس الشركة المصرية للحديد والصلب، التي تعد قلعة الحديد والصلب في مصر والشرق الأوسط، قررت الجمعية العامة غير العادية للشركة تصفيتها بعد الموافقة على تقسيمها إلى شركتين، شركة الحديد والصلب التي تمت تصفيتها، وشركة المناجم والمحاجر التي من المفترض أن يدخل القطاع الخاص شريكًا فيها لتشغيلها خلال المرحلة المقبلة.
كان قوام الشركة عندما بدأ العمل بها 25 ألف عامل. وبمرور الوقت تقلص عددهم حيث دأبت الشركة على إكراه بعض العاملين على تقديم طلبات موقعة منهم بالإحالة إلى اللجنة الطبية بزعم معاناتهم من حالات صحية
يقول محمود السمان، أحد عمال الشركة، حزنًا لفراقها "كنا نتمنى نعيش من خيرها باقي حياتنا. كنا نتمنى نربي أولادنا منها ونعيش بالحلال. صعب عليّ فراقك وتشريد عمالك. المكن والإنتاج وعزيمة العمال انتهت هنا. كلمة وطن لم يعد لها معنى من بعدك. لحساب مين دمروكِ وقضوا عليكِ. إن العين لتدمع على قطع الرزق".
هذا الحزن والألم خيّم على 7500 عامل في الشركة التي تمت تصفيتها، ومئات الآلاف من العمال المتخوفين من قرارات مصيرية مشابهة في مختلف الصناعات، وعلى كتاب وصحافيين ومثقفين وحقوقيين.
يشار إلى أن صناعة الحديد والصلب بدأت في مصر منذ أربعينيات القرن الماضي، بشركات خاصة بهدف استغلال الخردة من مخلفات الحرب العالمية الثانية بصهرها في أفران تعمل بالوقود السائل ثم صبها يدوياً في قوالب ودرفلتها إلى حديد تسليح.
وكان ذلك بشركات النحاس المصرية عام 1936 والأهلية بأبو زعبل عام 1946 ثم الدلتا للصلب عام 1947. إلى أن أنشئت الشركة المصرية للحديد والصلب كأول وأكبر شركة في الشرق الأوسط عام 1954 بمرسوم جمهوري في منطقة التبين بحلوان جنوبي القاهرة، وبدأ إنتاجها عام 1961 بحسب خطة لها تستهدف إنتاج الحديد والصلب بطاقة مليون ومئتي ألف طن سنويا مطابقة للمواصفات المحلية والعالمية، لتكون بذلك أول مجمع متكامل لإنتاج الصلب في العالم العربي، برأس مال 21 مليون جنيه. يقع على مساحة تبلغ 1700 فدان.
وأطلق المحامي الحقوقي المصري، محسن البهنسي، مبادرة بالتنسيق مع قيادات عمالية ومنظمات مجتمع مدني ومحامين وغيرهم، لمحاولة وقف قرار التصفية، وأعلن تواصله مع عدد كبير من المحامين ومنظمات المجتمع المدني وعدد من العاملين بشركة الحديد والصلب للمشاركة في الطعن الذي سيقدم بمحكمة القضاء الإداري المصرية، متضمناً ردّ اللجنة النقابية للعاملين بشركة الحديد والصلب المصرية برفض التصفية واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة نحو ذلك.
المبادرة بدأها البهنسي بدافع "بدل البكاء واللطم على الخدود، أدعو كل أبناء حلوان، والعاملين بشركة الحديد والصلب، ومنظمات المجتمع المدني، ودار الخدمات النقابية، والنقابة الفرعية لمحامي حلوان، وكل محامٍ شريف، للطعن على قرار تصفية شركة الحديد والصلب، والدفع بقوة نحو بطلان القرار واسترداد الشركة، ولو من دمائنا، شركة الحديد والصلب تاريخ ودماء وعمر وصناعة لن نسمح بتصفيتها".
فيما يصل عدد عمال الشركة المصرية للحديد والصلب بالتبين إلى 7300 عامل، لم يتطرق قرار الجمعية العمومية إلى مصيرهم بعد قرار التقسيم والتصفية.
وكانت اللجنة النقابية للعاملين بالشركة المصرية للحديد والصلب، وممثلو العمال في مجلس الإدارة، قد أعلنوا رسميًا رفضهم قرار التقسيم والتصفية، مؤكدين أنهم سبق أن تقدموا بأفكار عديدة لمجلس الإدارة والشركة القابضة للصناعات المعدنية من أجل تطوير الشركة ووقف عملية التخسير الممنهج التي كانت تهدف من البداية الى تقسيم الشركة وتصفيتها.
وفيما يصل عدد عمال الشركة المصرية للحديد والصلب بالتبين إلى 7300 عامل، لم يتطرق قرار الجمعية العمومية إلى مصيرهم بعد قرار التقسيم والتصفية.
ومن المنتظر خلال الفترة المقبلة أن يتم التباحث مع العمال بالشركة بشأن صرف التعويضات اللازمة لهم وإتمام إجراءات التصفية، وهي التي اعترض عليها بشكل كبير خالد الفقي، عضو مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية ورئيس النقابة العامة للصناعات الهندسية والمعدنية والكهربائية، وعدد من العاملين الذين حضروا الجمعية العامة، معتبرين أن "قرار التصفية قرار خاطئ وساهم في القضاء على تاريخ كبير لصناعة الحديد والصلب في مصر وللشركة التي أسهمت في بناء الصناعة في مصر".