يراوح قرار توقيع تونس على اتفاق مالي مع صندوق النقد الدولي مكانه منذ سبتمبر/أيلول 2022، حيث لم تحرز السلطات أي تقدم بشأن الملف مع مؤسسة التمويل الدولية، وسط توجه للابتعاد عن الصندوق خلال العام الجديد 2024 تجنباً للكلف الاجتماعية التي قد تحدث بسبب اشتراطات المقرضين.
وخلت موازنة 2024 من فرضيات اللجوء للاقتراض من صندوق النقد الدولي، لأول مرة منذ عام 2013، رغم إقرار حزمة إصلاحات، من بينها تقليص الدعم عبر زيادة الضرائب على السلع الاستهلاكية الموجهة للمطاعم وأصناف من المقاهي، إلى جانب زيادات متوقعة في الضرائب على مواد الطاقة.
وجرى تأجيل زيادة وفد صندوق النقد الدولي إلى الدولة، التي كانت مقررة في الفترة من الخامس إلى السابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، "بطلب من السلطات التونسيّة"، وفق ما نقلت وكالة الأنباء التونسية، قبل أيام، عن مصدر في صندوق النقد، لافتا إلى عدم الاتفاق بعد على موعد جديد، لكن ذلك سيجرى بالتشاور بين الجانبين. ولفت إلى أن مؤسسة التمويل الدولية مستعدة لإجراء المشاورات السنوية في إطار المادّة الرابعة للصندوق، المتعلّقة بمراجعة الأداء الاقتصادي التونسي.
في السياق، اعتبر رئيس لجنة المالية في البرلمان التونسي عصام شوشان أن وصول قانون الموازنة لعام 2024 إلى مرحلة المصادقة النهائية، من دون بحث أي فرضيات للاقتراض من صندوق النقد الدولي، يشير إلى تخلي السلطات التونسية عن التوجه نحو اتفاق نهائي مع مؤسسة الإقراض الدولية .
وتوصلت تونس إلى اتفاق على مستوى خبراء صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل بقيمة 1.9 مليار دولار، لكن الاتفاق النهائي تعثر. وقال شوشان، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن قانون الموازنة شرح مصادر التمويل الخارجي التي تتطلع تونس لتعبئتها عن طريق القروض البينية مع العديد من الدول التي انطلقت السلطات في مناقشتها.
ورأى رئيس لجنة المالية في البرلمان أن الإلغاء النهائي للتعامل مع صندوق النقد الدولي يبقى قراراً سياسياً تمتلكه السلطة التنفيذية، مشيرا إلى أن استقرار سعر النفط عالمياً وتحسن الظروف المناخية في تونس بتساقط الأمطار يحسنان التوازنات المالية للبلاد، ويساعدان على الاستغناء على اللجوء إلى الخارج لتعبئة القروض، فضلا عن تجنّب الكلفة الاجتماعية الباهظة التي قد تنتج عن تطبيق وصفة الصندوق القاسية.
وتخطط سلطات تونس لتعبئة موارد من القروض الخارجية تفوق 5 مليارات دولار لتمويل موازنة البلاد للعام القادم، في أعلى مستوى اقتراض منذ استقلال البلاد قبل ما يقرب من 70 عاماً، وسط تقديرات بأن تتجاوز ديون البلاد 80% من الناتج المحلي الإجمالي مع نهاية عام 2023، لتصل إلى 127 مليار دينار (حوالي 40 مليار دولار، وفق ما أفصحت عنه وزارة المالـية أخيراً.
وكشفت وثيقة الموازنة لسنة 2024 أن حكومة أحمد الحشاني تنوي اقتراض 16.4 مليار دينار (أي نحو 5.2 مليارات دولار) من الخارج، بينما لا تزال البلاد تواجه صعوبة كبيرة للحصول على قروض بشروط ميسرة لضمان توريد السلع الأساسية أو تسديد ديونها الخارجية.
ومؤخرا، نصح المرصد التونسي للاقتصاد (مؤسسة مجتمع مدني)، في ورقة تحليلية نشرها بعنوان "الخروج من صندوق النقد الدولي"، بضرورة التضامن في وجه تأثيرات تدخل هذه المؤسسات في سياسات الدول ومقاومتها والانخراط في بناء البدائل للمؤسسات الدولية لتلبية احتياجات التمويل.
وقال المرصد إن "بدائل التعامل مع صندوق النقـد الدولي موجودة فعلياً، حيث حاولت العديد مـن البلدان في العالم الهروب مـن شروطه". واعتبر أن بلدان شرق آسيا نجحت في ذلك بشكل أفضل، إذ كانت البدائل الرئيسية في هذا الصدد الأنظمة المالية الإقليمية واتفاقيات التبادل الثنائية.
ويعول اقتصاديون تونسيون في الوقت نفسه على بدائل محلية، تُمكن البلاد من تدبير أمورها بعيداً عن المؤسسات الدولية. لكنه في الوقت نفسه مسار يتطلب مزيداً من الإجراءات وبرنامجاً مُحدداً لم تتضح معالمه بعد.
ويرجح خبير السياسات المالية معز حديدان أن تحل السياسات التقشفية في الاستيراد وتعزيز الاستثمار بدل التمويلات المتوقعة من صندوق النقد الدولي، مؤكدا أن هذه الوصفة جرّبت عام 2023 ويمكن تمديد العمل بها لسنوات قادمة .
وقال حديدان إن عام 2024 سيكون مثقلاً بسداد الديون وأقساط الديون الخارجية، وهو ما يتطلب توفير إيرادات عالية من النقد الأجنبي للوفاء بالالتزامات تجاه الدائنين وعدم السقوط في مستنقع العجز عن السداد الذي يجر البلاد إلى الإفلاس.
وتوقع أن تعوّل السلطات بشكل مكثف على الاقتراض الداخلي بما في ذلك القروض المجمعة بالعملة الصعبة، إلى جانب مواصلة الضغط على الواردات للإبقاء على رصيد النقد الأجنبي عند مستويات مطمئنة وتجنب انحدار سريع لقيمة الدينار.
وتابع: "لم تجب موازنة العام القادم عن مصادر تعبئة أكثر من 60% من القروض الخارجية المبرمجة"، مشيرا إلى أن غياب الإجابة عن هذه التساؤلات يؤكد عدم امتلاك الجهات التي أشرفت على إعداد الموازنة أجوبةً حول الجهات الخارجية التي سيتم اللجوء إليها لتعبئة الموارد.
وسجلت العملة المحلية خلال العام الحالي ارتفاعاً بنسبة 1.43% مقابل الدولار الأميركي، الذي يبلغ سعر صرفه حالياً 3.07 دنانير، وذلك الى جانب تسجيلها تطوراً لافتاً أمام الين الياباني بنسبة 7.01%، وهما من أبرز عملات التعامل التجاري والاقتراض بالنسبة لتونس، وفق ما كشفته مذكرة المؤشرات النقدية والمالية الصادرة عن البنك المركزي التونسي يوم الثلاثاء الماضي.
من جهة أخرى، أظهرت أرقام البنك المركزي أن قيمة الدينار سجلت انخفاضا بنسبة 2.2% مقابل العملة الأوروبية الموحدة اليورو، الذي بلغ سعر صرفه 3.39 دنانير. وفي يونيو/ حزيران الماضي، خفضت وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني العالمية تصنيف تونس الائتماني إلى مرحلة "سي سي سي" سالب (CCC-). ويعكس هذا الخفض عدم اليقين بشأن قدرة البلاد على جمع التمويل الكافي لتلبية متطلباتها المالية الكبيرة. ووفق "فيتش"، فإن النقص الملموس في التمويل الخارجي لتونس سيزيد الضغوط على الاحتياطيات.
ولفتت إلى أن هذا الخفض يعكس إرجاء حزمة إنقاذ مالي قيمتها 1.9 مليار دولار مقدمة من صندوق النقد الدولي بعد تعثر المحادثات بين الجانبين، الأمر الذي يزيد احتمال التخلف عن سداد دين سيادي.
وقال أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية رضا الشكندالي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن التقشف وتقييد الواردات من أجل الحفاظ على رصيد العملة سيستمر خلال 2024، مضيفا: "ستكون سنة صعبة بامتياز على مستوى تسديد الديون الداخلية والخارجية بعد سياسة التقشف التي انتهجتها الدولة على مستوى الواردات في 2023".