خسائر تقدر بنحو 28 تريليون دولار، تلال من الديون، وكساد اقتصادي عظيم، وبطالة متفشية، وانقلاب في أسوق المال والمؤشرات وحركة الأموال، وسقوط حكومات ومؤسسات مالية وتجارية كبرى، وإفلاس دول، وتزايد حالات الفقر والجوع، وربما حدوث ركود شامل قد تفوق حدته ما حدث بعد الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم في 2008-2009.
وقد يشبه ذلك الركود المرتقب أزمة الكساد العظيم أو الانهيار الكبير الذي أصاب الولايات المتحدة في ثلاثينات القرن الماضي وأسفر عن انهيارات في الاقتصادات العالمية الكبرى وأسواق المال والبورصات وحركة التجارة، وكان له تأثيرات مدمرة على الدول الغنية والفقيرة على حد سواء.
هذه صورة من عالم ما بعد كورونا الذي يطل علينا بوجه البشع من الآن، فالجائحة باتت ترسم خريطة جديدة للمشهد الاقتصادي العالمي، خريطة قد يصعب تحديد ورسم ملامحها بدقة الآن حتى من قبل الساسة الغارقين في متابعة تأثيرات الوباء الصحية والاجتماعية والاقتصادية وكيفية احتوائها، خاصة وأن كورونا لا تزال تضرب وبقوة الدول والصحة العامة.
العالم قبل العام 2020 لن يكون هو نفسه عالم ما بعد انقشاع أزمة الوباء العظيم والانتهاء من مرحلة التوزيع الواسع للقاحات والبدء في حصر الخسائر المالية والاجتماعية وحتى النفسية.
والعالم الذي كان مشغولا قبل الوباء بالصراع بين أكبر كتلتين اقتصاديتين، وحرب العملات، والحرب التجارية الشرسة بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين وفي مقدمتهم الصين وأوروبا واليابان وكندا، وحروب ترامب الشرسة على منظمة "أوبك"، ووضع سيناريوهات لاحتمالات اندلاع أزمة اقتصادية جديدة، سيكون مشغولا في السنوات المقبلة بقضايا أخطر وأهم منها أزمة المديونية العالمية المتفاقمة، ونقص السيولة، وافلاس دول وربما عجز حكومات عن تلبية احتياجات شعوبها بما فيها تلك الأساسية مثل الرواتب وتوفير الغذاء والدواء والوقود.
والعالم الذي كان يتسابق على حيازة الدولار القوي ربما لن يكون كذلك في مرحلة ما بعد كورونا، فهناك العملات الرقمية التي باتت رقما صعبا في حجم التداول الدولي والمعاملات النقدية، وربما تصبح بيتكوين هي عملة المستقبل، وبالتالي تزيح العملة الوليدة الورقة الخضراء التي ظلت متربعة على احتياطيات الدول والبنوك المركزية من النقد الأجنبي لعقود طويلة رغم ظهور اليورو وتصاعد قوة اليوان الصيني، وربما تغير كورونا أولويات وقرارات المستثمرين ليدخل الذهب في منافسة قوية مع العملات المشفرة التي باتت تحظى باهتمام كبرى المؤسسات المالية حول العالم.
وعالم ما بعد كورونا سيشهد بروز قوى اقتصادية ومؤسسات مالية عالمية جديدة، وربما تعجل الأزمة الصحية بقيادة الصين الاقتصاد العالمي لتصبح القوى الأولى في العام، بل وأكبر اقتصاد في العالم قبل العام 2028 لتتفوق بذلك على الولايات المتحدة، قبل خمس سنوات مما كان متوقعا في السابق.
وربما تتفوق الصين أيضا على الولايات المتحدة في حركة جذب رؤوس الأموال العالمية واستقطاب المدخرات والشركات الكبرى، وأن تحتل الصين كذلك المركز الأول كوجهة مفضلة للاستثمار الأجنبي المباشر ومقصد لكبار المستثمرين حول العالم، يساعد التنين الأصفر في ذلك تغلبه السريع على الجائحة وتحقيق معدل نمو مرتفع متجاوزا توقعات المؤسسات الدولية مقارنة بمعدلات انكماش كبيرة للاقتصادات الكبرى المنافسة ومنها الأميركي والبريطاني والياباني.
الولايات المتحدة ومعها أوروبا ستغرق بعض الوقت في ملفات داخلية أبرزها إزالة غبار جائحة كورونا وامتصاص صدماتها الاقتصادية والمالية القوية، وربما تواصل الكتلتان خطط التحفيز النقدي وضخ سيولة في شرايين الاقتصاد والشركات، وربما زيادة أسعار الفائدة، وهو ما سيترتب عليه تضخم الدين العام وزيادة معدل التضخم، وفي حال حدوث ذلك فإن زيادة متوقعة ستحدث في الأسعار والضرائب والرسوم، وهو ما قد يثير غضب المواطن الغربي على الحكومات.
عربيا، فإن المنطقة باتت على موعد مع الضغوط الاقتصادية والمالية، واتساع رقعة طوابير الخبز والوقود وانقطاع المياه والكهرباء، وتفاقم الأزمات المعيشية، وانتفاخ عجز الموازنات العامة، وتعويم العملات الوطنية، وزيادة الدين الخارجي والمحلي ومعدلات التضخم، ومعها ارتفاع الأسعار، وهو ما يعني مزيدا من المتاعب للمواطن.
كما أن استمرار تهاوي أسعار النفط سينعكس سلبا على موازنات الدول المنتجة ومنها منطقة الخليج ويدفعها إلى مزيد من التقشف وربما الاقتراض وفرض الضرائب والرسوم، وهو ما ستكون له انعكاسات سلبية على الدول المصدرة للعمالة من حيث حجم التحويلات والاستثمارات المباشرة والمساعدات المقدمة من الدول النفطية لهذه الدول.
جائحة كورونا سيكون لها تأثيرات ضخمة وطويلة المدى على الاقتصاد العالمي، والعالم عليه أن يستخلص بسرعة العبر من الأزمة ويعيد ترتيب أولوياته التي يجب أن تنصب في المدى القصير على حماية الصحة العامة وتطوير التعليم وتوفير فرص العمل والاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والحد من الفقر ومكافحة الفساد، وكذا توفير الأمن والنظام والرفاهية الاقتصادية والعدالة وتطبيق القانون، وبعدها يتم الالتفات لمعالجة قضايا أخرى منها انفجار الدين العام الحكومي والكساد والتعثر المالي.