ضاعفت الطباعة النقدية التي انتهجتها الحكومة اليمنية بوتيرة عالية خلال العامين الماضيين بهدف سد عجز الموازنة العامة، من محنة اليمن الاقتصادية والنقدية، ما أدى إلى ضغوط شديدة على المالية العامة والعملة المحلية وارتفاع معدلات التضخم، ما فاقم من الصعوبات المعيشية لملايين الأسر.
وتقف الحكومة اليمنية عاجزة عن استعادة الموارد العامة للدولة المشتتة بين كيانات عدة في عدن وصنعاء ومأرب وشبوة وحضرموت والمهرة وسقطرى، في ظل شح الموارد المالية المتاحة لتمويل مشاريع التنمية في مختلف المجالات، في ظل ضعف الأجهزة الإيرادية في تحصيل الموارد السيادية للدولة.
وقاد ذلك إلى إقدام الحكومة اليمنية على المخاطرة بانتهاج سياسة مالية ونقدية يصفها خبراء اقتصاد بالمتهورة طوال الأعوام القليلة الماضية في إدارة المال العام من خلال طباعة مئات مليارات الريال اليمني لتمويل النفقات على القطاعين المدني والعسكري، دون توفر موارد مالية من النقد الأجنبي لحماية العملة الوطنية من التدهور والانهيار.
التصرف في المال العام بعيداً عن المساءلة
بالمقابل تقوم سلطة الحوثيين في صنعاء بتنفيذ ميزانية تعتمد على توفر السيولة المالية، ونظراً لنقص عائدات الوقود فإن حجم الموازنة في صنعاء أصغر وتعتمد في الغالب على حصيلة ضرائب أرباح الشركات.
ويشير خبراء اقتصاد إلى جانب مهم في هذا الخصوص يتعلق بعدم الشفافية في إدارة المال العام، إذ ليس هناك أي التزام بوضع ميزانية عامة تحدد حجم الإيرادات العامة وأوجه الإنفاق العام وفقا لضوابط وإجراءات قانونية، كما أن غياب الميزانية العامة أدى إلى التصرف في المال العام بعيداً عن المساءلة والمحاسبة.
الخبير المالي والمصرفي حافظ طربوش، يقول لـ"العربي الجديد"، إن عدم تنفيذ سياسات مالية ونقدية واقعية وسليمة بالنظر إلى الظروف التي أنتجتها الحرب واللجوء إلى بعض الخيارات الكارثية والاعتماد عليها كطباعة النقود مع تآكل الاحتياطي النقدي وانقسام المؤسسات المالية، انعكس بشكل كبير على تهاوي العملة المحلية وتشوه السوق النقدية والمصرفية وتراكم الأعباء الاقتصادية التي لم يعد بمقدور الجهات المعنية القيام بأي دور لمواجهتها.
ويؤكد تقرير صادر حديثا عن البنك الدولي اطلعت عليه "العربي الجديد"، أن إعادة السيولة للنظام المالي في اليمن إجراء مهم للحد من تكلفة ومخاطر المعاملات والمدفوعات، ليس فقط لسلسلة القيمة الغذائية، بل أيضا للاقتصاد بشكل عام، إضافة إلى ضرورة أن يضع البنك المركزي اليمني خطة عمل مرحلية ذات جدول زمني محدد لاستعادة السيولة في النظام المالي. ويجري البنك الدولي عملية تقييم مالي شامل للقطاع المصرفي في اليمن وتوسيع نطاق هذا التقييم ليشمل جميع المؤسسات المالية والمصارف والهيئات ذات العلاقة.
ويصف الخبير الاقتصادي مطهر عبدالله، في حديث مع "العربي الجديد"، الاستمرار في طباعة الأوراق النقدية طوال الفترة الماضية بمثابة حرب شرسة استهدفت العملة اليمنية وتدمير السوق النقدية وإغراقها بالأوراق الجديدة من العملة المطبوعة بصورة عشوائية غير مدروسة، وهو ما تسبب في فقدان العملة المحلية قيمتها ووظيفتها في التعاملات المالية والتجارية وانفلات مؤشر التضخم ووصوله إلى مستويات قياسية.
ارتفاع جنوني لأسعار السلع
كما انعكس ذلك على ارتفاع جنوني متواصل لأسعار السلع والمواد الغذائية، وتحول القطاع التجاري والمتعاملون في الأسواق إلى استخدام عملات أخرى أكثر أمانا وموثوقية، مثل الدولار أو الريال السعودي. ومع ارتفاع الأسعار العالمية للسلع الأولية، تسببت عوامل عدة في زيادة معدل تضخم أسعار المستهلك في اليمن وتأثير ذلك على ضعف القوة الشرائية للعملة الوطنية، وتآكل المدخرات وتخفيض القيمة الحقيقية للدخل.
وأدت السياسات النقدية المتنافسة من جانب أطراف الصراع إلى تباين كبير في سعر صرف الريال اليمني، إذ انخفضت قيمة الريال في مناطق الحكومة بنسبة تزيد على 100% مع استمرار اضطراب سوق الصرف وعدم استقرار العملة المحلية.
وتعول الحكومة على التحويل المتوقع لجزء من المخصص الأخير من حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي إلى اليمن، وما ستسفر عنه التحركات الأخيرة المكثفة باتجاه تحريك الوديعة المالية السعودية والإماراتية.
بينما ظل سعر الصرف في صنعاء والمحافظات الشمالية من اليمن الواقعة تحت سيطرة الحوثيين مستقراً نسبياً في غياب التوسع النقدي وحظر تداول الأوراق النقدية المطبوعة منذ العام 2017.
ويرى خبراء مصرفيون أن أسباب الاختلالات الحاصلة في سوق الصرف وانهيار العملة اليمنية واضطرابها المتواصل يتمثل في الضخ المستمر للنقد المطبوع من جميع الفئات الورقية، إذ تحولت هذه الكتلة النقدية إلى عائق كبير أمام الإجراءات الحكومية لضبط سوق الصرف وتدهور العملة المحلية، إلى جانب تسبب هذا النقد المطبوع في تغذية عمليات المضاربة في سوق العملة، وتشكل فئة كبيرة من التجار والصرافين الذي يقومون باستخدام العملة المطبوعة المتدفقة إلى الأسواق لشراء العملة الصعبة كالدولار، وهو ما يؤدي إلى استمرار اضطراب العملة اليمنية وعدم استقرارها.
انقسام مالي ونقدي
بدوره، يرى الباحث في معهد الدراسات المصرفية فهد درهم، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن اليمن سيظل لفترة يدفع ثمنا مكلفا لهذا الإغراق الحاصل في ضخ النقد المطبوع مع استمرار الانقسام المالي والنقدي وانتهاج سياسات مصرفية مختلفة في كل من صنعاء وعدن.
ولفت درهم إلى أن ذلك يمثل عائقا أمام أي جهود محلية أو دولية لدعم المؤسسات المالية والنقدية وتمكينها من التحكم في سعر الصرف وكبح جماح التضخم، واستعادة الدورة النقدية وإدارة أي احتياطيات مالية دولية في حال إتاحتها للاستخدام أو موارد وعائدات بالإمكان تحصيلها من تصدير النفط والغاز وغيرها من الموارد العامة المتاحة.