صندوق النقد الدولي: 80 عاماً من الاستعمار المالي

15 مارس 2024
صندوق النقد غالبا ما يفرض شروطا مجحفة على الدول المقترضة (فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- صندوق النقد الدولي، المؤسس في مؤتمر "بريتون وودز" عام 1944، يواجه انتقادات بسبب دوره في تعميق الفجوات الاقتصادية عبر فرض سياسات التقشف على الدول المدينة، مما أدى إلى تأثيرات سلبية على الاقتصادات والمجتمعات.
- الصندوق استُخدم كأداة لتحقيق مصالح الدول الرأسمالية الصناعية الكبرى، مما أسهم في تعميق الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة، وتفضيل الأنظمة المدعومة من هذه الدول بقروض ومساعدات مالية بشروط ميسرة.
- جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، ينتقد بشدة سياسات صندوق النقد الدولي في كتابه "العولمة ومنغصاتها"، مشيرًا إلى أنها تفاقم من معاناة الدول الفقيرة وتعمق الفجوات الاقتصادية العالمية.

في يوليو/ تمّوز 2024، يُتمّ صندوق النقد الدولي 80 عاماً على تأسيسه، وهي فترة ليست بقصيرة قضاها في تجسيد الاستعمار المالي الجديد وتكريس الابتزاز المالي وفرض سياسات التقشُّف على الدول المدينة باسم سداد الديون، والتاريخ شاهد على الكوارث التي لا تُغتَفر والأضرار التي سبَّبتها هذه المؤسّسة التي تمخَّض عنها مؤتمر "بريتون وودز"، المعروف رسمياً باسم المؤتمر النقدي والمالي للأمم المتّحدة، الذي عُقد في عام 1944 بولاية نيوهامشير الأميركية.

ولعلّ أحدث تلك الكوارث موافقة صندوق النقد الدولي على منح مصر قروضاً جديدة بقيمة 6.2 مليارات دولار بعد قبولها تعويم الجنيه مقابل الدولار وتخلّيها عن سياسة تثبيت سعر هذا الأخير عند 30.85 جنيهاً، الأمر الذي حبس أنفاس المصريين الذين يئنُّون بالفعل تحت وطأة الغلاء المنفلت من كل عقال. وتكرر المشهد مع دول كثيرة حصلت على قروض مؤخراً من الصندوق منها الأردن وباكستان والأرجنتين وسريلانكا، وهناك دول أخرى في الطريق منها تونس.

بعد الحرب العالمية الثانية، انحرفت السياسات في عدد متزايد من دول العالم الثالث عن سياسات القوى الاستعمارية السابقة، الأمر الذي اصطدم بمعارضة شديدة من حكومات الدول الرأسمالية الصناعية الكبرى التي تسيطر على صندوق النقد الدولي، لذلك قامت تلك القوى العظمى باستخدام الصندوق وتسخير سياساته لتحقيق مصالحها السياسية والاستراتيجية وإحباط كل من يتحدَّى هيمنتها.

والدليل على التناقض الصارخ الذي يعرِّي حقيقة الصندوق، ما نجده من تلقِّي الأنظمة المدعومة من القوى الرأسمالية الكبرى قروضاً ومساعدات مالية ميسَّرة من الصندوق على الرغم من عدم استيفائها المعايير الرسمية المطلوبة مثل اليونان وأوكرانيا، بينما حُرمت الأنظمة التي يُنظر إليها على أنّها معادية للقوى العظمى من قروض الصندوق بحجّة عدم احترامها للمعايير الاقتصادية التي وضعها مثل لبنان.

موقف
التحديثات الحية

بدلاً من إطفاء الأزمات المالية، يُتقن صندوق النقد الدولي فنّ إشعال الأزمات في الدول التي تتقطَّع بها السبل وينتهي بها المطاف في طابور طالبي قروضه ومساعداته المالية المقترنة بشروطٍ مجحفة وإصلاحاتٍ هدّامة لا بنّاءة، إذ يصف الصندوق في بادئ الأمر دواءً مالياً يصعب على الدول الفقيرة والمغلوبة على أمرها ابتلاعه نتيجة مرارة مكوِّناته المتمثِّلة في تحرير سعر صرف العملة مقابل الدولار، التقشُّف، إلغاء الدعم الحكومي، فرض المزيد من الضرائب، الخصخصة، التحرير السريع للتجارة.

وبعد ظهور أعراض الدواء العمدية لا الجانبية، يشرع الصندوق في تمرير الحزمة الأولى من القروض والمساعدات بأسلوب التقطير، ويجعل فترة المفاوضات مرهونة بانتزاع أكبر قدرٍ من التنازلات، لتجد تلك الدول نفسها بعد ذلك حبيسة دوامة الإدمان على طلب قروض جديدة لخدمة الديون السابقة، فعلى سبيل المثال تنفق أفريقيا الآن على مدفوعات فوائد الديون أربعة أضعاف ما تنفقه على الرعاية الصحية.

وباعتباره شكلاً من أشكال الانتقاد العلنيّ الصارخ لسياسات صندوق النقد الدولي، كرَّس الاقتصادي الأميركي جوزيف ستيغليتز Joseph E. Stiglitz، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001، كتابه الذي لاقى رواجاً غير مسبوق "العولمة ومنغِّصاتها" Globalization and Its Discontents لتوجيه انتقادات لاذعة وحادّة إلى هذه المؤسّسة الدولية التي وردت 340 مرّة في كتابه، وهو عدد كبير إذا ما قارناه بالـ 64 مرّة التي ذُكِرت فيها كلمة العولمة التي تمثِّل الموضوع الرئيسي لهذا الكتاب.

فقد أفادت مجلة "الإيكونوميست" البريطانية، بأسلوب ساخر وتهكُّمي، في مراجعتها لهذا الكتاب أنّ العنوان الأكثر دقّة له هو "صندوق النقد الدولي وسخطي" في إشارة إلى سخط ستيغليتز من الصندوق.

وفور صدور الكتاب، نظَّم صندوق النقد الدولي ندوة تحت عنوان "ستيغليتز، صندوق النقد الدولي والعولمة" Stiglitz, the IMF and Globalization قدَّمها توماس داوسون، مدير إدارة العلاقات الخارجية في الصندوق، والذي ردَّ بدوره الصاع صاعين إلى ستيغليتز، واصفاً الحقائق التي وردت في كتابه بالبغيضة والكاذبة.

كما استهجن داوسون الذي تحدَّث بلسان الصندوق انتقال ستيغليتز من كونه كبير الاقتصاديين في البنك الدولي إلى كبير منتقدي صندوق النقد الدولي وتهكَّم كثيراً على تحسُّن مهاراته باعتباره صانع سياسات بعد فوات الأوان، في إشارة منه إلى عدم اكتراث المؤسّسات الدولية ولا سيَّما الصندوق بآرائه وتوصياته.

لم يرتدع ستيغليتز عن انتقاد الصندوق، لكنّه خفَّف الجرعة قليلاً في كتابه الذي نال استحساناً كبيراً "إنجاح العولمة" Making Globalization Work، فقد وجَّه أصابع الاتِّهام إلى الصندوق الذي يروِّج لتحرير التجارة ورفع الدعم، وأشار إلى أنّه في حين تفرض الدول المتقدِّمة التعريفات الجمركية وإعانات الدعم، تتخلَّى عنها الدول النامية، الأمر الذي يكلِّف الدول الفقيرة المليارات لأنّها تستورد أكثر ممّا تُصدِّر ويمنح الدول الغنية 70 في المائة من الفوائد التجارية.

كما أكَّد جوزيف ستيغليتز في مقال له بمشاركة كيفن غالاغر تحت عنوان "أعمال صندوق النقد الدولي غير المكتملة" The IMF's Unfinished Business ، أنّ الصندوق الذي يخضع لضغط كبار المساهمين فيه، وجماعات الضغط المالية، وخبراء الاقتصاد المتعنِّتين داخله وخارجه، يُدخل بين حين وآخر بعض المصطلحات التجميلية لمحو وصمة العار التي لحقت به جرّاء الدفاع عن سياسات معينة تراجع عنها فيما بعد، مثل مصطلح "تدابير إدارة تدفُّق رأس المال" capital flow management measures الذي أصبح شائع الاستخدام في منشورات الصندوق الذي اعترف بعد إنكار طويل بأنّ تحرير تدفُّقات رأس المال ليس الحلّ الأمثل لأغلب بلدان الأسواق الناشئة والنامية، وأنّ ضوابط إدارة تدفُّق رأس المال وتدابيره من الممكن أن تكون فعّالة بالفعل في ظلّ ظروف معينة.

عند قراءة كتب ستيغليتز ومقالاته، نجد أنّ انتقاداته للصندوق تتحلَّى باللباقة، ولا تتخلَّى عن اللطافة مقارنة بحقيقة هذه المؤسّسة غير العادلة التي تستغلّ يأس الدول التي تطرق بابها من أجل انتهاك سيادتها وامتصاص ثرواتها وأصولها الاستراتيجية.

خلاصة القول، رغم سهام الانتقادات اللاذعة التي تنهال على صندوق النقد الدولي من كل جانب، لا يزال الخيار الذي تلوذ إليه الكثير من الدول التي تُسيء تخصيص مواردها وتسرف في إنفاق المال العام وتستهتر بثرواتها الطبيعية ولا تقدِّر قيمة مواردها البشرية وتتغوَّل على شعوبها بدعم من جيوشها، ولا تجد في نهاية المطاف بدائل سوى الامتثال لشروط الصندوق المجحفة التي لا ترحم.

المساهمون