صندوق النقد الدولي وتصرفات غريبة

07 أكتوبر 2022
مقر صندوق النقد والبنك الدوليين في واشنطن (Getty)
+ الخط -

نظرياً، يُعرِّف صندوق النقد الدولي نفسه بأنّه منظمة مالية دولية تعمل على تعزيز التعاون النقدي العالمي، وتأمين الاستقرار المالي، وتسهيل التجارة الدولية، وتشجيع زيادة فرص العمل، وتحفيز النمو الاقتصادي المستدام، والحدّ من الفقر في جميع أنحاء العالم.

لكن الأمر يختلف كثيراً من الناحية العملية، حيث تُوجَّه أصابع الاتِّهام إلى هذا الصندوق لتقويضه الاستقرار المالي في ذات الدول التي يتظاهر بأنّه يحاول مساعدتها، حيث يتَّفق النقّاد والخبراء والمحللون المتابعون لأنشطة هذه المؤسسة المالية على عدم رحمة الصندوق عند تحصيل فوائد ورسوم وأعباء القروض والديون في أسوأ اللحظات التي تكون فيها البلدان المقترضة في حاجة ماسة إلى الأموال والسيولة الدولارية لدرء شرّ الفقر.

لقد ندَّد كل من الاقتصادي الحائز جائزة نوبل "جوزيف ستيجليتز" وأستاذ سياسة التنمية العالمية بجامعة بوسطن الأميركية "كيفن غالاغر" في ملخّص السياسة، الذي نشراه عام 2021 تحت عنوان "فهم عواقب الرسوم الإضافية لصندوق النقد الدولي: الحاجة إلى الإصلاح"، بسياسة فرض السداد التي تأتي بنتائج عكسية في البلدان المقترضة وتقلِّل من الإمكانات الإنتاجية لاقتصاداتها.

يؤكد خبراء ضرورة تجنُّب الصندوق لجني الأرباح من الدول التي تعاني من ضائقة مالية شديدة يمكن أن تقودها إلى الإفلاس

وشدَّد الخبيران، ستيجليتز وغالاغر، على ضرورة تجنُّب الصندوق لجني الأرباح من الدول التي تعاني من ضائقة مالية شديدة يمكن أن تقودها إلى الإفلاس. فبدلاً من أن يكون صندوق النقد شريان الحياة للاقتصادات المضطربة حتى تتعافى دون اللّجوء إلى تدابير تقشُّفية مدمِّرة للمواطن والاقتصاد، أو القبول بشروط تعجيزية مجحفة، يستمرّ بلا مبالاة في تعظيم إيراداته، متعارضاً بشكل واضح وصريح مع مبادئه التأسيسية.

من بين الدول الخاضعة للرسوم والأعباء الإضافية التي يفرضها صندوق النقد الدولي بحجّة ثني الدول عن الاقتراض المفرط وتشجيعها على السداد بسرعة أكبر، نجد مصر وتونس وباكستان وأوكرانيا وجورجيا وألبانيا والإكوادور وسريلانكا. وبطبيعة الحال، لا تبرِّر تلك الحجّة الضعيفة والخادعة سلوك صندوق النقد الذي يأخذ بيد أكثر ممّا يعطيه باليد الأخرى.

من المفروض أن يكتفي الصندوق بمساهمة الدول الأعضاء التي لا تحتاج لمساعدة مالية في دعم تكاليف تشغيله وميزانيته العامة، ولكن ما يحدث هو العكس تماماً، عند إمعان النظر في الرسوم الإضافية وأسعار الفائدة العالية التي تُفرض على البلدان التي تمرّ بأشدّ الظروف صعوبة والمرغمة مع ذلك على تقديم النقد الأجنبي الذي تحتاجه لتلبية احتياجاتها الأساسية.

تقف العديد من الدول المتعثِّرة اقتصادياً ومالياً في طابور الاقتراض من صندوق النقد الطويل. فعلى سبيل المثال، تُجري مصر حالياً مفاوضات شاقّة مع الصندوق من أجل الحصول على قرضٍ جديد، لم تُعلَن رسمياً قيمته بعد، لدعم اقتصادها، علماً أن هذه ليست المرة الأولى التي يتعاون فيها الصندوق مع مصر، فقد حصلت على 3 قروض من الصندوق بقيمة تزيد على 20 مليار دولار على مدار السنوات الست الماضية، حيث بلغت قيمة القرض الأوّل الذي حصلت عليه في نهاية عام 2016 لتمويل برنامجٍ للإصلاح الاقتصادي 12 مليار دولار، وأعقبه قرض ثانٍ في عام 2020 بقيمة 2.77 مليار دولار لمواجهة تداعيات جائحة كورونا، ثمّ وافق الصندوق في أواخر العام ذاته على منح مصر قرضاً ثالثاً بقيمة 5.2 مليارات دولار ضمن برنامج الاستعداد الائتماني.

ودخلت تونس أيضاً في مفاوضات رسمية مع صندوق النقد الدولي مطلع يوليو/ تمّوز الماضي، بغية الحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار لاستكمال موازنتها لعام 2022 وعلاج اقتصادها المأزوم بغضّ النظر عن تبعات لجوئها إلى الصندوق كتضخّم فاتورة الدَّين العام وتحميل المواطن التونسي جزءاً كبيراً من الأعباء المُرافِقة لبرامج الإصلاح ذات الكلفة الاجتماعية الباهظة، كتجميد فاتورة رواتب موظَّفي القطاع العام، وخفض دعم السلع الأساسية، مثل الوقود، وبيع القطاع العام.

تقف العديد من الدول المتعثِّرة اقتصادياً ومالياً في طابور الاقتراض من صندوق النقد الطويل

ينتظر لبنان المنهار على جميع الأصعدة التوصُّل إلى اتِّفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار يُصرف على مدى 4 سنوات للتخفيف من حدّة الانهيار الاقتصادي، لكن الصندوق أبلغه يوم 1 سبتمبر/ أيلول الماضي بضرورة بذل المزيد من الجهود لإصلاح القطاع المالي وتعديل قانون السرِّية المصرفية الذي لا يزال يعاني من أوجه قصور عديدة.

حتى فرحة السودان لم تكتمل بعد أن وافق الصندوق في يونيو/ حزيران 2021 على منحه قرضاً بقيمة 2.5 مليار دولار لمساعدته على تخفيف عبء ديونه، ثم قرَّر المماطلة في تنفيذ الاتِّفاق نتيجة الانقلاب العسكري الذي وُضع على إثره رئيس الوزراء عبد الله حمدوك قيد الإقامة الجبرية في أكتوبر/ تشرين الأول 2021.

ولا يزال اليمن أيضاً في انتظار ردّ صندوق النقد على طلبه المتمثِّل بالحصول على قروض لدعم اقتصاده الذي قضت عليه الحرب المستمرّة منذ 7 سنوات، ولم يحصل بعد على بصيص أمل، بالرغم من قيام فريق من الصندوق ببعثة افتراضية وشخصية إلى السلطات اليمنية خلال الفترة من 31 مايو/ أيّار إلى 7 يونيو/ حزيران 2022.

هناك العديد من الدول الأخرى التي تنتظر بفارغ الصبر حصولها على قروض من صندوق النقد، بالرغم من عدم قدرتها على الوفاء بشروطه المجحفة التي تتعارض مع مبادئ السيادة الوطنية وتلحق الضرر البليغ بالفئات الفقيرة. فقد أظهر تحليل نشرته منظمة أوكسفام البريطانية في إبريل/ نيسان الماضي أنّ 43 دولة من أصل 55 دولة عضواً في الاتِّحاد الأفريقي تواجه، بموجب توصيات صندوق النقد الدولي، تخفيضات في الإنفاق العام يبلغ مجموعها 183 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة، لتصبح بعد ذلك في فوهة بركان الفقر والجوع.

العديد من الدول الأخرى التي تنتظر بفارغ الصبر حصولها على قروض من صندوق النقد

وفي أفريقيا تحديداً، يُنظَر إلى صندوق النقد الدولي على أنّه أداة تمويل رئيسية تستخدمها واشنطن لتوسيع نفوذها هناك، لكونها المموِّل الرئيسي له، ولا سيَّما في ظلّ اشتداد التنافس بين الولايات المتّحدة والصين والانقسامات في النظام العالمي في أعقاب الحرب الروسية على أوكرانيا.

خلاصة القول، تواجه العديد من البلدان في العالم الآن خطر الإفلاس، وتجد نفسها بين خيارين أحلاهما مرّ، إمّا أغلال صندوق النقد الدولي التي لا تُخلَع، وإمّا الاستسلام على حافة الانهيار الاقتصادي الذي يضرّ ولا ينفع.

والحقيقة التي لا خلاف عليها، ضرورة تخلِّي صندوق النقد الدولي عن الوصفة الموحَّدة التي يصفها لجميع الدول بالرغم من إدراكه لمدى اختلاف مشاكلها وهياكلها الاقتصادية، حيث ينبغي لهذه المؤسّسة المركزية في النظام النقدي الدولي أن تعمل بجدّ على تصميم وتطوير الإصلاحات داخل البلدان المقترضة بما يتناسب مع ظروفها ومعطياتها وتحدِّياتها.